كانت متمهلة جدا، وكأنها يد خبير يحاذر الخطأ، يبتعد عن النقص، والتشويه غير المتعمد، أخذت قطعة من الحلاوة ووضعتها على ساقها، شدت بقوة، تأوهت، عضت على الشفة السفلى، أصبحت شهية بعد أن مصت الألم المشدود إلى شفتيها.
كانت رحلاتي بكل ما تحمله الكلمة من معنى مؤثرة باتجاه البلدان الفقيرة وهي التي خلفت أثرا إيجابيا في نفسي، لذلك فأني مدين لكرم أهالي العائلات التي استضافتني وتعاملهم معي محتفظا بكل الذكريات الجميلة معهم. لقد أيقنت أخيرا بأني وقعت في حب الشعوب الفقيرة، ولا أمانع أن أكملت بقية حياتي معهم، فهم يعيشون سعداء حياة ملؤوها حب وتفاني وأكتفاء.
لا أعرف لم استحضرت تلك اللحظة سفينة نوح، السفينة التي أنقذت المؤمنين من الطوفان العظيم، المؤمنون فقط من نجو بتلك السفينة، البقية غرقوا، تلك اللحظة أحسست بالخديعة، كنت مؤمنا بالإعلام الرسمي، أحسست بأننا تركنا لنغرق ولم تكن هناك سفينة تشترط الإيمان للنجاة من الطوفان أو أن تلك السفينة غادرت ولم نشعر بها، خدعتنا وتركتنا نواجه كل هذا الشك والخوف، السفينة التي آمنا بها خذلتنا كلنا، تركتنا نغرق، ندمر، نموت، لقد مرت في ساعات ذروة الطوفان وكان قائدها يبتسم بلا اكتراث، تخيلت المشهد، إنه يقهقه ويرفع إزاره عاليا ليظهر من بين ساقيه خرطوم طويل ثم يصرخ فينا " هيا تعلقوا به .. إنه سبيل نجاتكم "، حاولنا، لقد كان ذلك الخرطوم يحتاج لمواصفات خاصة لكي يتمكن من الإمساك به، كان يحتاج للقدرة على الابتسام وعدم الاكتراث أو الإحساس بالآخرين، يحتاج للكثير من النرجسية والقدرة على التلون كحرباء في كل الأوقات والأزمان .. ولم نكن نجيد تلك الصفات، رويدا رويدا كانت تلك السفينة تختفي وتخلفني مع آخرين آمنوا بها، .. عراة ووحيدين ومرضى نصارع الخوف والموت والمصداقية المتوارية بعيدا في الأفق..
الكتابة فعل الموسوسين، أولئك الباقون خلف الريح، تدفع بهم نحو.. العقل؟؟ اقتربت من الحرف الأخير، أتساءل: من أين نبدأ؟ وبين (الألف والياء).. ستة وعشرون سببا.. للموت..
لقد كان ذلك حُلماً. وكانت حشود الشعراء تجاهد في الوصول للسماء الوحشية، للأعالي التي تخفق فيها راية السخرية والخلاص المرتبك. لم يكن هناك خلاص قطعاً، بل مصهر حارق تتشكل فيه الأبدان، برزخ غريب تتنزه فيه الصورة، كما لو أنه لا بدّ من حضور طويل العنق، لا بدّ من مسافات خارقة صوب الأعلى، صوب الشمس، ليتحقق ارتطام إيكاروس، ليحتفي الكون كلّه – كعادته - بالمأساة النهمة الصيفية. لم يكن سُلماً أسمنتياً أو حديدياً، أو خشبياً، بل سُلماً مجدولاً من الحبال، الخام الأول للكون، مشدوداً إلى بعضه بإحكام، ولكنك تحسب لأول وهلة أنه منتزع من شجرة الضياع لا من ألياف نخلة، وأنه لم يُخلق كيما يكون درَجاً أو مصعداً، بل تهكّماً من الأقدام، أو تحدياً لها. سلّم يبتغي أن تطأ متنه ومتانته الهشة بالمجالدة، بخفة السفر، بوفرة الإحساس بالرعب، بالضلوع التي تحوم حولها النسور والغربان، بالرؤوس التي سُلِّطتْ على مشاريعها وأحلامها البروقُ المخاتلة..
تتم الروائية الأمريكية نعومي شهاب ناي في "سلحفاة ميتشغان" حكاية روايتها "سلحفاة عمان"، الحائزة على جائزة "كتاب الشرق الأوسط لعام 2015". سافر الصبي عارف العامري أخيرًا مع والدته، بعد أن وافق بالحيل الذكية التي حاكها جده المحب. ملأ حقيبته بتذكارات جمعها أثناء ترحاله الوداعي لبلده عمان، وحلق وأمه إلى مكان الإقامة الجديد مع والده في مدينة ميتشغان. أثناء استعداده للسفر ظل يقرأ عن مدينتي ميتشغان وديترويت، يجمع عنهما من الإنترنت معلومات تؤهله للدخول إلى مجتمع جديد وثقافة مختلفة. بقي عارف طوال الرحلة الطويلة يقظا متحفزا لكل جديد يراه في رحلته التي ستكشف عنها هذه الرواية. عشق في ميتشغان طبيعتها وبحيراتها وفواكهها اللذيذة كالتوت الأزرق والكرز الأحمر، وتعلق بسلاحفها، وتخير أصدقاء مذهلين من مختلف بلدان العالم. أحبّ مدرسته الجديدة ومعلماته، وعاش مفاجآت سارة في الحي والمدرسة. أخيرا، اهتدى عارف إلى قناعة خاصة أو حكمة حياة بأن الجميع قادر بتفاعله واستمتاعه على تحويل الأمكنة النائية والغربية إلى أوطان جديدة.
الجمال ليس مسألة ترف في حياتنا، بل هو عمق لصفاء السريرة والفكر.. "سلسلة عرفت الجمال" رسائل متنوعة من مصادر مختلفة ابتدأت أيام الحجر المنزلي لرفع مستوى الوعي الروحي والنفسي لدى الناس زمن "كوفيد19"
الـذي رأيـتـه يـا صديقـي يسـمى «الدفـن السماوي». الشعب التبتـي يؤمـن بـأن أجسـاد البشر لا قيمـة لهـا بعـد خروج الـروح منهـا، ويجـب أن يكـون الجسـد مفيـدا لروحـه، فيتـم إطعامها للطيـور الجارحـة؛ لأنهـا قـادرة على التحليق عاليا في أرجاء السماوات؛ ليصبح الجسـد قريبـا مـن الـروح. التبتيـون لهـم أيضـا معتقدات تخـص الخلـود والـروح الطيبـة وتلـك الشريرة، والمكان الذي نسعى للوصـول إليـه؛ أعنـي جبال الهملايا التي لها قدسية عظيمة لدى التبتيين وعموم البوذيين. فاجأ ريغو رفيقه بعبارة غير متوقعة: أراك مؤمنا بهذه السخافات يا مارك!، أدار مارك وجهه عن صديقه ليسترسل في الرد: لا، لسـتُ كذلك، لكـن علينـا أن نحترم ثقافـات الآخريـن، نـحـن أيضـا نؤمـن بالبعث، وهو في حد ذاته بداية لحياة الخلود.
أهز رأسي بقوة كمن ينفض عنه كومة غبار متكدسة ... استل روحي من براثن الذاكرة وأعب هواء نقيا تبعثه السماء الخضراء للقلوب المثقوبة بجروح الماضي فيتسل ل بخفة ونعومة ويسدل عليها بلسما لطيفا فتبرأ وتنتشي وتحلق في سهول السعادة .. السفر إلى السماء الخضراء كان يعوزه الشجاعة والقوة والثبات .. يجب أن تكون بالا و تمزق أحلامك التي رسمتها لك أمك على قارعة شارع اسفلتي متخم بالموت .. السيارات التي لا تبالي بأجهزة ضبط السرعة وتهوي كصواريخ الهجوم البري ... هناك عليك أن تخلع معطف أحزانك وتمضي قدما غير آبه بعواصف التحذيرات التي تتقاذف عليك من كل صوب التي تشبه صراخ بائع الزلابية المتجول حين استجبت النداءاته المخاتلة وملأت معدتي بالزلابية السائحة من شدة الحرارة. ثم بت يومين كاملين أتوجع من آلام بطني على أوتار مسكنات الألم وعتابات أمي.
الأمطار زادت غزارتها وكأن السماء أمست قربة ماء هائلة شقت طولا بخنجر حاد، الرياح ترقص رقصة الجنون دونما توقف، وأصواتها عويل عجائز إثر جائحة عظيمة، سمحة في طريقها إلى حتفها المحتوم حيث تبدى لي الجبل موت عملاقة باسط ذراعيه يستعد الاحتضاتهم. فلك عظيم يجري في أمواج أعظم، المرة الأولى التي أشاهد فيها سمحة، تبحر من بعيد ولست فيها، رأيتها هائلة الحجم، فمة البناء، متماسكة البنيان، كأني أشاهدها للمرة الأولى، تبحر بتصميم إلى هدف مكتوب, تخترق أمواجاً وتركب أخرى، مليئة بالبشر وتكاف من أجل الحياة وسط بحر لجي مظلم.
بقيت أنا هنا أخوض معاركي مع نفسي، وأحارب كل شيء، بحماقة دون كيخوت أصارع الطواحين العملاقة التي تدور في رأسي كل الوقت، أرشقها باللعنات وأصب عليها جام غضبي، وأنتظر كل يوم أن تطحنني أخيرا وأذهب إلى السماء دون رجعة، لكن هيهات، حتى هذه الأحلام الصغيرة تستحق الوأد قبل أن تولد، مثلي تماما .ومثل كل هؤلاء الصغار حولي.
ما أنتم بصدد قراءته هو صورة اجتماعية تاريخية جغرافية لحياة عاشها بطل هذه الصورة بين سلطنة عمان وأفريقيا ومجموعة من دول شبه الجزيرة العربية. وتدور أحداثها في الربع الثاني والثالث من القرن العشرين، في زمن كانت ترسمه جغرافية المكان بين سهول عمان وغابات أفريقيا وصحاري شبه الجزيرة العربية، كما تمسك بمقوده کیانات متصارعة ودول ناشئة، تستبدل ثوبا ألبسها إياه الاستعمار برداء لم يحكم نسيجه فبدت ألوانه مبعثرة.