في عبورنا السريع هذا، نحمل في حقائبنا الكثير من الأسرار والحكايات والكتب التي نفتحها في وحدتنا، على غفلة من العالم. نتوقف عندها، نتأملها، ونستعيد اللحظة بتفاصيلها العميقة. ليس ثمة وجهة واضحة في الطريق، ولكنا نتوقف لنرتب حقائب الذكريات. أي لنكتبها من أجل الإمساك بها، قبل أن تفلت من مخيلتنا، وتستدرجنا محطات أخرى، أكثر دهشة وغواية وصخباً. وها أنا، في استراحة محارب قديم، أقلب دفاتر الأيام وأطل على أرصفة ومرافئ ومحطات تركت روائحها وضجيجها في القلب، وليس أمامي سوى أن أجمع ذلك كله بين دفتي كتاب. في هذا الكتاب أرافقك أيها القارئ الكريم إلى محطات بعيدة عبرتها ذات يوم، وأفتح معك كتباً ودواوين قرأتها في رحلة ما، وأتوقف معك على تخوم قصية اكتشفتها دون سواي، وقد حان الوقت أن تشاركني لذة هذه الاكتشافات الهائلة بين هواجس الذات وتجليات الكتابة، التي تبدو في معظمها "مثل المشي في ظلام دامس"، على حد تعبير الشاعرة الأمريكية فكتوريا تشانغ.
سبعة وعشرون غصنا تنوع كتابها وتعددت مواضيعها، وإن كانت رمزية الشجرة حاضرة في جميع النصوص التي احتواها العمل. وجاءت النصوص لتشكل احتفالية بالشجرة من حيث هي معنى وروح يمكن إسقاطه على كثير من قضايا عالم الإنسان، تارة بامتدادات الإنسان في شجرة السلالة الآدمية، وتارة بأحواله النفسية التي تتقلب بتقلب الفصول، وتارة بما تمثله الشجرة في حضورها الملازم للإنسان في بداوته وحضره.
المرء في صباه الأول يستمع إلى كثير من الأخبار والحكايات من أمهاته وآبائه فتمتلىء ذاكرته بالشيء الوافر منها ثم مع مضي الزمن وتقلبات الأيام ومع ازدحام الذاكرة بما يتراكم فيها من حوادث جديدة وأخبار متنوعة في مسار حركة الحياة الممتدة يبدأ تساقط تلك المعلومات وذهابها شيئا فشيئا وعندما يصل الإنسان إلى سن معين يكون أغلب ما وعاه في طفولته وشبابه قد تلاشى أو كاد ولا يظل منه إلا القليل.
وليحضنني أمانك يا الله كي تذوب مخاوفي، ويطمئِنّ قلبي، فإني أسألك الأمان والسكينة، فأنت رب كليهما. ان أنصح عن البعثرة المخبَّاةوسط صفحات الكتاب اللذي بين يديك، ولكن ليعلم قلبك بأنَّ هذه البعثرة قد حقَّنتُها لك من وريدي بالتحديد؛ رغبةً في ان يهدأ نبض قلبيقليلاً، وأبقى على قيد الحياة.
تترنّحان على حروفِ القلقلة فتهزّانِ يميني ويساري وتُبعثرانِ ليلي ونهاري فتسيرانِ بي تارةً إلى المسجدِ في أوقاتٍ غير أوقاتِ الصّلاةِ وتارةً إلى صومعةٍ أغسلُ فيها وزرَ سيفٍ قارعتُ به في منامي الرّيحَ ورفقائي من الأعرافِ؛
تكسر خطى الفتى محمد صمت القرية المخاتل، هذا «المكان» الذي يتفجر، تحت أقدامه، بالحكايات المتوارية خلف جدران البيوت وبين الأحراش وفي الوهاد، حيث تتشابك مصائر ابن الغجرية مع ابن المجنونة، فالعم صالح والوالي المتسلّط وغيرها من شخصيات ترنو إلى حياة عادلة فإذا هي محض سراب، وما من بوصلة سوى هذه المغامرة الجريئة التي يضعها بين أيدينا الروائي العماني أحمد م الرحبي كمن يسحب دلو ماء من بئر مظلمة، ليسقي عطشنا بسرد متدفق يجمع الرقص بالقيد، والغطرسة بالتوق للحرية، ونداءات الحب.
إنما الأهم مما يمكن قوله، هو ما يمكن للبيئة أن تفيدنا به، حيث إن ثلاثية الأخزمي الروائية لا تجعل من الصحراء موضوعًا لها، فهناك البحر بكل مداه، حيث يظهر أن التركيز على البحر هو أكثر حضوراً من الصحراء، وهناك المدن والبلدان والجبال أحياناً، وبذلك تبتعد هذه الثلاثية عن مجمل ما كتب انطالقاً من عالم الصحراء، أو عالم البحر، وهو ما نشاهده بسهولة في روايات عربية مختلفة، وللصحراء موقع لافت في ذلك، في كم وافر من الروايات العربية، حيث سلط الضوء عليها، في بنيتها المجتمعية والبدوية كذلك. في حال الثلاثية هنا، مجتمع الرواية أكثر حركية، وهو يصل ما بين الاثنين، وأكثر من ذلك، فإن مجتمعاً كاملاً يتم التعرض له، في المكاشفة الروائية، ومن خلال أسماء أمكنة، وباسم دولة كاملة، وكيف أن هذا المجتمع والذي تنمذج في السياق الروائي، تتسع دائرة علاقاته الاجتماعية والثقافية داخلاً وخارجاً، وأن نهاية الجزء الثالث، هي تجسيد لانفتاح محسوس على الخارج، وتبلور التحديات من الخارج، وما في ذلك من وجوب اليقظة لمؤثراتها.
بياض في المخيلة .. مجموعة شعرية للشاعر سالم الهاشمي تحت عنوان "بياض في المخيلة"، وهي نصوص تتخذ من شكل القصيدة المنثورة وعاء للتعبير عن المجردات كالشعر والزمن والليل والفجر والحزن والمحسوسات كالعنب والوردة والعطر والجناح وسواها من مفردات تؤسس لقراءة سيميائية غارقة في استدعاء معطيات الجمال اللغوي البلاغية. من نص "غزالة تلاحق قصيدة": من هذا، الذي يحلم، أن يكتب قصيدة، ويده مغموسة، في فنجان قهوة.
بيت الجريزة .. سيرة ذاتية للكاتب هاشم الشامسي يستعرض فيها سيرة المكان والإنسان إبان حكم جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه من خلال عين الذاكرة الراصدة لما دار في مدينة مسقط القديمة والسيب القديمة وما شمله المكان الواسع من أمكنة صغرى كالمدرسة السعيدية وحلة وادي العود وغيرها مما يوقظ الروائح والموسم في ذاكرة الطفل الشاهد على ذلك التحول النوعي. يتذكر هاشم الشامسي بيت الجريزة ومراتع اللعب والحوادث الطفولية التي ما زالت تتصدى في ذهنه للزمن، كما يستحضر للقارئ صيف مسقط القديمة ومساءاته وأيام الأعياد، وطقوس ختم القرآن وسواها من مشاهد بدأت تخفت في حاضرنا. ليكون الكتاب بما تقصاه في ذاكرة المكان والإنسان مادة تصويرية للأجيال لم يتح لها عيش تلك التفاصيل.
كثيرة تلك الحقائق الموغلة في التاريخ، والبطولات الإنسانية الغائبة عن الأجيال المعاصرة التي زهدت في الاطلاع عليها لأسباب عديدة. لكن لا سبيل لتقديمها عذبة دافقة إلا بالخيال واللغة السلسة والسرد المتأنق وهذا ما حاولت أن تقدمه رواية "بيعة الروح".
صرتُ أحلم في يقظتي بأن أصبح مارادونا آخر يثير الإعجاب بإبداعه، فبدأت بممارسة اللعبة في حصة الرياضة في المدرسة صباحًا، وأمام بيتنا الكبير في «الردّة» عصرًا برفقة إخوتي وأبناء الجيران. لكنّي كنتُ مصابًا بالربو منذ طفولتي، ويضيق نفسي من أي مجهود صغير أبذله، لذا؛ ما كنتُ أقوى على المراوغة ولا الركض في الملعب جيئة وذهابًا كأقراني، فكنتُ أكتفي بالوقوف في منطقة التسلل وانتظار أي كرة يجود بها زملائي في الفريق.
تراقصت الحروف بوهجها رنانة طنانة؛ لتكون كلمات في سطور وتعطي من بيانها حكايات من عالم الحيوان . فيها المتعة والحكمة والفائدة والتشويق، أشبه ما تكون بقصص كليلة ودمنة، سبورت أعماق الغابة وظهرت بهذه الحلة.