يسعى هذا الكتاب إلى استعادة بعض اللحظات الشاردة من عمر الصداقة الوطيدة، التي جمعت بين قامتين أوروبيتين كبيرتين: الكاتب جورج سيمونون، وعملاق السينما الإيطالية فيدريكو فيلليني... وهي صداقة وطيدة في الحياة والفن والأدب، نشأت عفوية في البداية، لكنها سرعان ما تعضدت، وتقوت بدافع التقدير المتبادل بين الرجلين، والاحترام الكبير لموهبة كل منهما، والتشجيع المتواصل على العطاء المتميز. وقد ساهمت في توثيق أواصر هذه المحبة، ثلة من الرسائل الورقية المهمة التي تبادلها الصديقان، لما يربو عن عقد من الزمن؛ فشكلت بذلك تجربة تواصلية فريدة، يمكن أن نلحقها بالتجارب التواصلية العظيمة، التي جمعت بين أدباء وفنانين كبار آخرين، يتوزعون بين مشارق الأرض ومغاربها؛ وهي -لعمري- التجربة التي يكاد عهد السيبرنطيقا المطبق اليوم، أن يغطي عليها برسائل افتراضية قصيرة، ليس فيها بوح مستقطر للوجدان، ولا ترجمة متموجة ومفعمة بالحرارة، لما يعتمل بدواخل المرء من لواعج وأحاسيس. لقد جمعت تجربة سيمونون وفيلليني التراسلية خبرتين مختلفتين في الحياة والمعرفة التخييلية، وقامتين فنيتين غير متناظرتين، لكل منهما مجال اشتغاله الإبداعي، وقناعته، وتصوره الخاص به للفن والحياة. لكن هذا لم يمنع الرجلين من تقاسم الكثير من لحظات الصفاء النفسي والذهني بينهما، والتعبير عن الإعجاب والتقدير لبعضهما، والاشتراك في بضعة آراء وقناعات معرفية ، والتحدث عن نفس الحالات النفسيّة الرّهيبة، التي ما تنفكّ تهجم بشراسة على المبدع، وتلتهم دواخله، وتهدده بالإحباط.
ربما كان حبي الأقدم شجرة غاف أو سمر أو قرط أو شريش كانت خراف عائشة ونعاجها ومعيزها تسرح وتمرح وترعى تحتها وإلى جوارها. أو ربما تلك الموجة الزرقاء التي حاولت أن تبتلعني وأنا أساعد الصيادين في سحب القارب کي يستقر على الشاطئ في رحلة صيد الأسماك ذات صباح باكر. ربما كان حبي الأول صخرة أحاول دحرجتها عبثا، أو وطنا مسوّفا محزوما في لعابي، أو أما مسافرة في قلبها إلي، أو سمكة تنفض فضتها في أشواقي، أو نخلة هيفاء تقرّب إلى أنفي -وأنا نائم أحلم بها- روائح طلعها المقدس ورطبها الجني. ربما كان حبي الأول موتا تجاوزني، أو حياة منقلبة ومتدحرجة تشبه ملامحها فتاة ما، خزّنتني في بوصلتها الماكرة، وفي جهاتها المتحولة، فتاة لم أرها ولم ألتقها حتى هذه الساعة. ربما كان حبي الأول صفحة بيضاء كالتي في فيلم سينمائيّ، أو زاوية حادة تنبعث فيها عزلتي الذهبية أو دمعتي التي تفيض بالحنين إلى شيء غامض موارب عنّي.
هذه المذكرات قِوَامُها أحداث وذكريات، رحلة تنطلق مِنْ سَفَرٍ مُرَادُه الاستكشاف، كالمراد من جميع الرحلات التي قادت كتابًا أو عشاقَ مغامراتٍ إلى فضاءات متداخلة لا يمكن الفصل بينها في الوعي والتعبير، كالبحث والتعرية والتبيين والإظهار... وقولك أَسْتَكْشِفُ مَعْنَاه أنّك تبحثُ وتفتّش عن نفسك أيضا. لا يصل القارئ، من خلال هذه المذكرات، إلى (الصين) التي زارها مؤلفها محمود عبد الغني، لأن الوصول إليها أمر متاح متى ما انتواه الشخص وهيأ له الأسباب، بل يصل، وهو الأهم، إلى المعرفة التي لا يمكن أن تَتِمّ إلا من خلال العلم بالشيء، والتي تتحصَّل على مستويين: العارف بها، كاتبنا، لأنه أدركها بحس من حواسه، وطلبها فاستوعب معانيها واختزنها ثم سكبها في قالبها هذا، والمُتَعَرِّف عليها (قارئنا) بوصفه الاسم الذي وقع عليه الفعل، أو تحصّلت لديه المعرفة منه (الفعل).
في نصوص قواعد الرحلة الأربعون ندرك ما لا يدرك إلا بالتأمل، نقرأ ما لا تراه العين، نكتشف ما لا يرى، نصل إلى حيث لم نحلم يوما بالوصول. هذه النصوص خلاصة مدرسة في تأمل الذات، وفي اكتشاف مكامن قوتها عبر السير إلى الأمكنة الداخلية للنفس البشرية، نصوص تجعل قارئها يعرف كيف يمكن أن يرحل ويرتحل وهو في قمة إنسانيته العظيمة، تلك التي وهبت له لاكتشاف نفسه وما حوله في المكان والزمان.
يعود بنا أحمد الراشدي إلى فن الرسائل على نحو بليغ، يأخذنا بلغة رسائله الحميمة بألمها إلى ابنته فدوى، ليترك أثرا لها في سيرة محبة ووفاء. کم أتت كتابته مؤثرة حد البكاء في وصف خبر رحيل ابنته، ساردا حياتها القصيرة معه أبا يجيد فن الأبوة مع الأطفال في كثير من مشاريعه الثقافية. نقرأ رسائل موجعة بنزيف سرد مؤلم كتبها أحمد الراشدي عن حياة قصيرة مرت علينا سريعا وذبلت، مثل وردة صار اسمها فدوی.
في نصوص "في مديح الحب" للروائية العمانية جوخة الحارثي، الفائزة بجائزة مان بوكر العالمية للرواية لعام ۲۰۱۹م تجربة مغايرة عما كتب سابقا في ثيمة الحب. نقرأ هنا اهتماما أدبيًا لافتا ومغريا ومتقصيًا في جوانب داخلية متوارية، وأخرى خارجيّة ظاهرة. تدخل هذه التجرية قارئها في متعة تعد بها نصوصها، بما تحمله من معان إنسانية سامية.
لم يكترث البناء الفني في قصص "عندما كنت أجيد الطيران" بالذات لإعادة إنتاج شعور داخلي عابر بين جدران تضم أفواها تتنفس حزناً وإحباطاً، إنما برغبة حس عال ورصد متعمّد ترقب الذات الكاتبة واقع مجتمعها، وتنسج حوله قصصًا بطريقة فنية تجعل قارئها في كثير من قصصها العشر بين متعة القراءة ولذة العوالم المتخيلة، فإن خفتت الدهشة الصادمة أو ضمرت في بعض المرات؛ إلا أن النهايات ظلت مثل شجرة معتنى بها لتكون الصورة جميلة والمعنى يانع.
ليس عنوان "الغابة الفاضلة" -وحده- باعتباره متعاليا نصيا رئيسا قادرا على البقاء في ذهنية القارئ ومتخيله المعرفي، إنما شخصياتها تراهن على أن تظل رواية حاضرة في تاريخ البناء التراكمي للقراء: لانتمائها إلى نوع أدبي قديم متشكل منذ كلاسيكيات الأدب العربي في كليلة ودمنة، وفي أعمال أخرى تلته في الآداب الإنسانية بلغات العالم المختلفة. تكمن قوة "الغابة الفاضلة" في انحيازها للأفكار، وجمالها باعتبارها نصا أدبيا لافتا يتقاطع مع تلك الرغبة الصادقة في أن يبني الحيوان غابته الفاضلة مثل ما حاول خيال أفلاطون أن يبني للإنسان مدينته الفاضلة. بين الواقع المجازي في عالم حيوان "الغابة الفاضلة" والواقع المتخيل من عالم الإنسان استطاع عادل المعولي كتابة نص مختلف عن السائد المألوف، ليترك قارئ غابته الفاضلة يبحث عن أي من شخصيات روايته الأقرب إليه.
تناول الكتاب المؤثرات الفكرية والعقدية والسياسية وفاعليتها في صياغة الخطاب الاستنهاضي في الفترة الزمنية بين 1860-1970 بما شهدته من أحداث وتحولات على الصعيد السيوجغرافي. يتطرق الكتاب إلى المقومات الأساسية التي بها تشكل شعر الاستنهاض كغرض متوائم مع تلك الفترة، ويبحث في الجوانب الفنية والأسلوبية والإيقاعية بضرب نماذج شعرية على رأسهم أبو مسلم البهلاني تفضي إلى خلاصة مرجعية لغرض الاستنهاض.
مع التغيرات المتلاحقة التي شهدها العالم والتطورات العلمية والتكنولوجية التي تسارعت وتيرتها في القرن الأخير، أصبحت تتخلق نظرات جديدة للنص، وللأدوات التي يعالج بها هذا النص، مدفوعا هذا بتطور مجموعة من العلوم الجديدة المعاصرة التي أصبحت تفرض واقعا جديدا وتتكاتف معا لتنتج مخرجات أكثر قدرة على المساهمة الفاعلة في عصر تغلب عليه التكنولوجيات المتقدمة. وأصبحت العودة لمحاكمة المسلمات القديمة حتمية عندما أصبحت لا تلبي متطلبات العصر، وعندما أصبحت أيضا الكشوفات والتطورات في العلوم المحيطة تفرض نفسها بنتائج أكثر تقدما وتقول بعدم صلاحية تلك المسلمات في المحيط وبطبيعة الحال فعلوم النص وأدوات معالجته ونظرياته القديمة ليست استثناء من ذلك, ومن بينها الاستعارة. فالاستعارة اليوم في الدراسات الحديثة -وخاصة المعرفية- ليست هي الاستعارة كما طرحها أرسطو ونظر إليها، وتبعه من جاء بعده من علماء البلاغة العربية, فقد تغير النظر إليها جذريا، وأصبحت دلالاتها قبلية وبعدية وكذلك في بنية النص نفسه، ومعها أصبح الاستقراء أكثر اتساعا ليس للكاتب أو الأديب فقط، وإنما للفكر الذي تتحرك من خلاله وفيه بل هي نفسها أصبحت صانعة لهذا الفكر.
ذاع صيت أبي مسلم ناصر بن سالم بن عديم الرواحي البهلاني بوصفه شاعرا مفلقا وعالما نحريرا؛ فهو شاعر العلماء وعالم الشعراء وقد انتشر شعره في ربوع عمان، وتلألأت قصائده في المهجر الأفريقي (زنجبار) الذي كان أرضا خصبة ليبعث لنا تلك الآثار الشعرية مخضبة بالحكم والمواعظ. لقد وقفت على الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني فوجدت فيها لغة متدفقة ومعاني جياشة وأغراضا متنوعة وقد تنوعت آثاره الشعرية؛ فنجد قصائد دينية ومدائح نبوية وقصائد استنهاضية وقصائد في الحكم والمواعظ وقصائد غزل في أحيان قليلة.
كتاب "تداوليات الخطاب السردي في روايات علي المعمري" للدكتور علي الشرجي، كتاب استعرض فيه جملة من المباحث المتصلة بالتداوليات والتخييل السردي ونظرية العوالم الممكنة وأفعال الكلام وخطاب التخييل وتعدد الأصوات وتعدد البناء الفني ومباحث في التنوع الكلامي وما يشتمل عليه من مزج اللغات وحضور اللغة الشعرية وغيرها من العناوين التحليلية للخطاب السردي التداولي للمدونة الروائية للكاتب علي المعمري، وهي رواية همس الجسور وراية ابن سولع، يقول الباحث في مقدمة الكتاب عن الرواية العمانية " عرفت تراكماتٍ على صعيد الكتابة الإبداعية فنيًا وموضوعيًا، وراهنت على إثبات وجودها".