هذه الرواية المفعمة بعلاماتٍ سيميائيّة دالةٍ، يقتضي تتبّعها الإشارةَ لمظانِها، ففي مستهلِّ الروايةِ خلعَ هيغلُ العمامةَ، وحلق لحيتَه المنفوشةَ كالقناعِ الأسود، فسقط الشعر كفراشات تسقطها النّار الملتهبة، وبعد هذا الفعل ظهر جمال وجهه، سرّح شعره وارتدى ثيابًا عصرية، فأحسّ بملامسة الهواء لجلده لأول مرة في حياته، بدأ تاريخ مولده الجديد، شرب البيرة، وحين جلس في البار لمْ يتعرّف عليه أصحابُه، بل ظنّوا أنّه تمرّد، ولمْ يفهموا أنّه عاد لفطرتِه، فأصبحَ ينامُ بعمقٍ ويفيق على صوت العصافير، ويستنشق هواء عليلًا، لقد تخلّص هيغل من الوهم، وقرر أن يُعمِل عقله من دون خوف، وأن يعيش كما يشاء الدكتور أدهم القاق
هذه القصص هي خليط من الواقع المعيش والحكايات المتخيلة والفانتازيا السحرية، ولعلها تصنف في جنس التخييل السيري، الذي يقتضي تشييد بنية السرد على تجارب ذاتية؛ بصفتها منصة للولوج في عملية التخييل السردي؛ إذ يحصل امتزاج بين الحقيقة والخيال والرؤى الفلسفية والتجارب الحياتية، بل يحصل حوار بين العقل الفيزيقي والروحاني الميتافيزيقي والفانتازي، وإن كان الكاتب قد ارتكز بشكل أساسي على واقع الحياة وجانب من السيرة الذاتية، إلا أنه وظف أيضا لغة الخيال الشعري ودس رموزاً وعلامات دالة على المعاني والمدلولات، من ثم تحتاج إلى قراءة سيميائية تكشف عن العلامات المضمرة والشبكات الدلالية في نسيج السرد، وصولا إلى مقاصد السارد التي تمس واقعا مدركا، وتستشرف مستقبلا واعدًا
يهرب سالم من أبيه الصارم ومشيخته في «وادي السحتن» إلى «الإمبراطورية الصغيرة» حيث الأرض التي سقطت بين ثلاثة جبال «وادي عدي»، ليجد فيها ملاذه ومستقره، بينما قرع الطبولِ لا يفارقه. إنها طبول الهرب والجوع نسمعها خارجة من أحشائه، إنها طبول الطموح والأمل، مصحوبة بالمجهول والمرتقب، وهي تعلو وتبطئ وتسرع على هدي هذه الرحلة الروائية البديعة التي ينسجها الروائي العماني محمود الرحبي بإيقاع تخييلي وتوثيقي، مازجاً الأغاني الشعبية بالصلوات، والتمائم بدخان السجائر، والرغبات الصاخبة بهدير مكيفات الهواء.
ما أقسى الوطن حين يخذلنا! ما أقساه حين لا يقابلنا بذات الحنين إليه! ما أقساة حين ينكر أبناءه! ولا يأبه بهم، حتى لو تشردوا في سواه آه يا وطني.. ما أعجبك حين تكون أنت الوجع ومنك الوجع وإليك نشكو الوجع! مطايا الشوق رواية تاريخية تتقفى سيرة الأسلاف، والأشواق المتناثرة في دروبهم، هناك حيث يسير كلٌّ إلى غايته، منهم المشتاق إلى ضفاف وطنه، ومنهم إلى مرافئ قلبه، ومنهم إلى عرش أجداده، ومهما اختلفت الغايات، إلا أن دروب الوجع واحدة، فجميعهم ينزفون أعمارهم، وأحلامهم، حين ساروا تحت ديمة الأمل في رحلة البحث، فمنهم من يصل، ومنهم من تخونه أقداره. كما تسير الرواية أغوار القلوب، أحلامها، وإنكساراتها، في تلك اللحظة حين يحاسب الإنسان ذاته، ويختبر إيمانه، وصدق معتقداته، ليكتشف حقيقته عند نهاية الطريق. صراعات وخيانات وتناقضات، تجتمع في ملحمة سردية مليئة بالأحداث والتشويق، يقدمها لكم الكاتب؛ على أمل أن تشرق بها قلوبكم، وتزهر معها أرواحكم.
هل تحققت تنبؤات ألكسندر تشايانوف في هذه الرواية الديستوبية؟ هل أصبحت موسكو مدينةً فاضلة، عمادها الفن والثقافة، وقد سخر العلم لخدمة الإنسان؟ أسئلة كثيرة ستتوارد إلى ذهنك وأنت تقرأ هذه الرواية الاكتشاف، فبطلها أليكسي كريمنيف يُغمى عليه عام 1920 ليستيقظ في «1984»! (أي قبل أن يكتب جورج أورويل روايته الشهيرة بـ 29 عاماً)، وعليه فإنك ستخوض غمار رحلة خيالية تتخطى الخيال إلى الأفكار والطروحات، إلى الحب والمشاعر الغامضة، بينما يتكامل تشييد تشايانوف لمدينة أشبه ببرج بابل، لكنها لا تخلو من أسباب انهيارها.
هل ياترى.. أيختلف بحر صلالة عن بحر مسقط؟ مياه الله واحدة؛ ولكن كيف تغيرت مشاعري تجاه البحر لمجرد سفري من بيت الأهل إلى محراب العلم؟ أكثر من ألف كيلومتر قطعتها عبر البر؛ للانتقال من واحة طفولتي ومراهقتي في صلالة إلى دوّمة دراستي وصناعة مستقبلي بالجامعة في قلب مسقط العامرة، لكن يبدو أن مسافة أطول قطعتها بين روحي هناك وبقاياي هنا! هكذا قدري في كوابيسي دائما " أتنفّس تحت الماء"؛ غارقة في العمق، أرى نور الشمس عند سطح البحر كحبل إنقاذ لؤلؤي ممتد لا تصل إليه يدي اليائسة. أراقب القوارب تمر في صمت، أراهم في الأعلى ولا ينتبهون لمأساتي في الأعماق وأنا هُنا.. أتنفّس تحت الماء".
يبحث هذا الكتاب موضوعي الجمع الروائي والجمع اللغوي في تراثنا: الجمع الروائي الذي دونته المجموعات الحديثية المختلفة ونسبته إلى النبي والصحابة وتابعي الصحابة هو تراث إنساني يدرس بتصديق وهيمنة آيات الكتاب، وهذا يحفظ الدين من تشويش وشغب ما يرويه الناس، ويوظف الحديث معرفياً في نطاق آيات الكتاب. أما الجمع اللغوي الذي دون في كتب اللغة فقد تشبع بأعراف وتقاليد شعوب وقبائل المنطقة، وعند هيمنته على الكتاب فمن المنطقي أن نحصل على مآلات برائحة ونكهة الزمن الذي تولدت فيه تلك الدلالات اللغوية، وهذا النهج قديم لخصه ابن عباس فيما نسب إليه بقوله: (إِذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ شيئاً من القرآنِ فَلَمْ يَدْرِ مَا تَفْسِيرُهُ، فَلْيَلْتَمِسْهُ فِي الشَّعْرِ، فَإِنَّهُ ديوانُ العَرَبِ).
لا ترتبط الأعمال الكاملة بموت المؤلف، وإنما أيضًا بذكراه. إنها ترياق ضد النسيان والغياب الذي يحدق اليوم أكثر من أي وقت مضى بالكاتب وآثاره، وبهذا فالأعمال الكاملة بقدر ما تحيي الذكرى بقدر ما تحيي القراءة، إنها دعوة إلى إعادة القراءة، ليس فقط لأن كل إعادة قراءة هـي اكتشاف تماما مثل القراءة الأولى كما يؤكد إيتالو كالفينو، بل كذلك لأن إعادة القراءة هي ما يصون المنتوج الأدبي من التقادم الذي يتربص اليوم بجميع المنتوجات، منتوجات ما أن تكون حتى لا تكون كما يقول عبد السلام بنعبد العالي. هذه الأعمال الكاملة تجميع للمتفرّق ولملمة للمشتت، إنها توثق دورة حياة الكاتب، تجيء به إليك، وتجعله في متناول الجميع، كما أنها شهادة على نهاية مسار. محمد الساهل
ها أنا أقف على عتبة لحظة فارقة في رحلتي بتجربة حوارية استثنائية، تحمل في طياتها فرادة نادرة، رغم الظلال الثقيلة التي رمتها المحاولات السابقة، فإن هذه المحاولة كانت مختلفة لأن أسئلتي التي طالما كممتها في أعماقي، وجدت الروائية المتميزة صاحبة السمو السيدة غالية آل سعيد تستقبلها بحرارة وعمق إن التحدث عن تجربة تمثل اليوم بلا شك أحد أبرز فصول السرد العماني المعاصر يحمل في طياته جمالية خاصة. هذه التجربة، مع كل تفرداتها وتعقيداتها، تتعانق مع التحولات الراهنة التي تمر بها المنطقة، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. ليس هذا فحسب، بل تجسد هذه التجربة أيضًا حياة الكاتبة نفسها وأبطال رواياتها. ورغم ظروف الحياة الصعبة والتحديات المستمرة، فإن شخصيات رواياتها تتميز بالثبات والاستقرار، مستندة إلى جذورها العميقة. في هذه التجربة المتميزة، تبرز الكاتبة كمرآة تعكس واقعنا، متأملة في التغيرات المستمرة، وتفهم تماما الأوجاع والآمال المرتبطة بكل حالة انفصال وغربة. كما أنها تسلّط الضوء بحنكة على قضايا المهمشين واختلالات مجتمعاتهم، وكيفية تعاطي المجتمع معهم بعمق وحساسية. فمن يعش في الأقاصي، يتجذر بعمق في ذاكرته وتراثه، معترفا أن الحياة مليئة بالتحديات والتحولات المستمرة.
الطريق سيحدثك ستشعر بروحه وهو يهمس في أذنيك عن نفسك ورغباتك وأحلامك .. سيذكرك حتما بطفولتك ... يدفعك دفعا للتفكير .. ستلامس روحك المكان وتشعر حتما أنك تنتمي إليه أو أنت امتداد له .. نسماته المحملة بعبق الحنين المرافقة لمجرى الوادي تأخذك بعيدا وكأن أر
التقط زاهر المحروقي برهافةٍ شخصيات مُدهشة من محيطه وأخضعها لمجهر الكتابة، متأمِّلًا إيَّاها ومُصغيًا إلى أحاسيسها وهواجسها وأحلامها، حتى لتبدو أنها خرجت من بطن رواية مدهشة لا من واقع معيش. في “صديق الملكة” مثلًا نشاهد الرجل العائش في الأوهام الذي يصنع بالخيال واقعًا آخر غير الذي يعيشه، وفي “آسفة.. أرفض هذه الكرامة” نندهش من المرأة المبتلاة بمعرفة ما يدور في ضمائر الآخرين قبل أن ينطقوه، وفي نص “في الوقت نفسه: أصلِّي وأقرأ النشرة!” يسرد لنا حكايتَه هو شخصيًّا وقد شُوهِد في اللحظة نفسها في مكانين مختلفين متباعدين، أما في “مطعم الأوهام العجيبة” فلا يملك القارئ إلا الابتسام وهو يقرأ حكاية المجانين الذين فرُّوا من المستشفى، ثم عادوا إليه بعدد أكبر من الذي هرب! وفي “البيوت أسرار” يحبس أنفاسنا بحكاية “الباصر” (هل أقول المشعوذ؟) الذي تمكَّن من شفاء آلام مبرِّحة في الظهر بمجرد كشفه غطاء صينية أمامه! وغيرها من الحكايات التي اقتنصها المحروقي وعرف كيف يوظِّفها في سرد مشوق، ما إن تبدأ بقراءته حتى تجد نفسك مجبرًا على المواصلة. سليمان المعمري