أفكر بصوت مكتوب، وأعيش الحياة فكرة بعد فكرة وأدون الحروف على شاكلة يوميات حتى تبقى لأمد طويل، وحتى أعود لها بعد حين فأدرك أي فكرة تلك التي خطرت على بالي ذات زمن، وأي حالة شعورية تلك التي كنت أعيشها، التفكير بصوت مكتوب يتيح للفكرة أن تبقى، وللخيال أن يرسم على الورق، وللكلمات أن تعبر محيطها الضيق حتى تصل إلى الآخر، فتلتقي وفكره المشابه أو تثير لديه فكرة أخرى مختلفة، وفي كل الأحوال تثير الفكر وتحرك مستنقع التفكير.
الأمطار زادت غزارتها وكأن السماء أمست قربة ماء هائلة شقت طولا بخنجر حاد، الرياح ترقص رقصة الجنون دونما توقف، وأصواتها عويل عجائز إثر جائحة عظيمة، سمحة في طريقها إلى حتفها المحتوم حيث تبدى لي الجبل موت عملاقة باسط ذراعيه يستعد الاحتضاتهم. فلك عظيم يجري في أمواج أعظم، المرة الأولى التي أشاهد فيها سمحة، تبحر من بعيد ولست فيها، رأيتها هائلة الحجم، فمة البناء، متماسكة البنيان، كأني أشاهدها للمرة الأولى، تبحر بتصميم إلى هدف مكتوب, تخترق أمواجاً وتركب أخرى، مليئة بالبشر وتكاف من أجل الحياة وسط بحر لجي مظلم.
«عندما يكون العمل متعة، فإن الحياة سعيدة! وإن كان العمل واجبا، فإن الحياة عبودية»، ذلك ما صرح به الكاتب الروسي للقصة القصيرة والرواية وأدب السيرة الذاتية والدراما والصحافي الكسندر مكسيموفيتش بيشكوف الشهير بلقبه مكسيم غوركي وغوركي تعني المرير. وهو من رواد الأدب الروسي ومن جيل أنطون تشيخوف ومؤسس أدب الواقع الاجتماعي الذي شوهته الشيوعية ليصبح الأدب الاشتراكي المستبد. اعتبر مكسيم غوركي الذي ولد في 16 مارس عام 1868 في نيزني نوفغورود، أديب شعب روسيا وممثل الطبقة الدنيا التي سحقها الفقر اولا خلال حكم القيصر ومن ثم الاضطهاد والدكتاتورية لمختلف الفئات بعد الثورة البولشوفية. تجلت عظمة أدبه في كتابته عن صراع ومعاناة وآلام الطبقة الدنيا من المجتمع، التي ينتمي إليها وعايش كافة جوانبها ابتداء من طفولته وحتى أصبح كاتبا شهيرا. عاش مكيسم يتيما بعدما توفي والده بالكوليرا حينما كان مكسيم في الخامسة ووالدته بمرض السل بعد سنوات معدودة. اعتنت به جدته التي كان لها تأثير كبير على حياته فمنها استمد حبه وتعاطفه مع الفقراء ومن قصصها وحكاياها اغتنى خياله. أجبره جده القاسي على ترك الدراسة والالتحاق بالعمل قبل بلوغه العاشرة وحاول الانتحار حينما كان في التاسعة عشرة من عمره وذلك بعد وفاة جدته التي كانت أعز مخلوق عنده.
إن السر فيما كتبه تشيخوف هو أن خامة أدبه تشبه قماشة الحياة، وأن فرادة فنه تكمن في بساطة ذلك الفن، وفي اقتصاده واكتفائه ببنية الأسلوب الكلاسيكي وقواعده. فهناك الكثير من الكتاب ممن التزموا الأسلوب الكلاسيكي في تأليفهم، بيد أنهم لم يتركوا الأثر الذي تركه تشيخوف في الأدب العالمي، وفي نفوس القراء على حد سواء. إننا حين نتحدث عن بساطة أسلوب تشيخوف ووضوح لغته، نعني البساطة والوضوح اللذيْن يشيعان في أجواء قصصه، وليس بالضرورة بساطة المفردة التي يستخدمها ووضوح التركيبات التي يولِّدها. كتب تشيخوف القصص المختارة هذه بين أعوام 1880 – 1886؛ أي وهو ما بين العشرين والسادسة والعشرين من عمره، وباستثناء قصة «من يطارد أرنبين لن يفوز بأي منهما» فإن باقي القصص، وبعد مراجعة أشهر ترجمات تشيخوف إلى اللغة العربية، فهي تترجم للمرة الأولى.
"تتميَّزُ الإنجليزية عن غيرها من اللغات بأنها لغة العالم الأولى اليوم، فهي اللغة الأم لبريطانيا وأمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا، واللغة الرسمية الثانية لدول إفريقية مثل نيجيريا وزامبيا، ولدول آسيوية مثل الهند وسنغافورة؛ وإن لم تكن هذه أو تلك أوليت عناية خاصة كلغة أجنبية في التعليم والإعلام والعلاقات الدولية، كما هو الحال في عالمنا العربي. ولما كانت المكتبة العربية تفتقر إلى مجموعة مختارات من آداب هذه الدوائر الثلاث، فإنَّ سلسلة "ترحال عبر قصص مترجمة" تأتي لتسد شيئًا من هذه الثغرة، فهي تقدِّم قصصًا قصيرةً من آسيا وإفريقيا وأوروبّا وأمريكا والبحر الكاريبي ومنطقة أوقيانوسيا؛ تتوزّع القصص المترجمة على كتابين، يتضمَّن الأوَّل عوالم أحاديَّة اللغة (إلى ما قبل بابل)، والثاني تتحرّك شخصياته في إطار متعدِّد اللغات (إلى ما بعد بابل) هذا التوزيع يعدُّ إجرائيًّا في نهاية المطاف؛ فالمترجم خالد البلوشي ينطلق من أنّ الإنسان، سواء أكان أحاديّ اللغة أم متعدّد اللغات، يبقى غريبًا منفيًّا أينما كان وكيفما كان؛ مأتى غربتنا إنسانيّتنا، فنحن، بحسب ما يرى، نفوس لا تتّسق على منوال ولا تطّرد على حال، بيدَ أنّنا لا سبيل لنا إلا الاجتماع إلّا إذا تناسق معنانا مع غيرنا، وإذا كان هذا كانت الأسماء والمواقع والأدوار، ومن ثم كان المسعى إلى تكييف نفوسنا بحسب المجمَع عليه، هذه المفارقة البشريّة تنطوي على آثار نفسيّة وأخلاقيّة تكشفها القصص المترجمة فنًّا ويسعى المترجم الكاتب إلى إظهارها نقاشًا في كتاب نقديّ ثالث من السلسلة (تقويض بابل)"
لقد كان ذلك حُلماً. وكانت حشود الشعراء تجاهد في الوصول للسماء الوحشية، للأعالي التي تخفق فيها راية السخرية والخلاص المرتبك. لم يكن هناك خلاص قطعاً، بل مصهر حارق تتشكل فيه الأبدان، برزخ غريب تتنزه فيه الصورة، كما لو أنه لا بدّ من حضور طويل العنق، لا بدّ من مسافات خارقة صوب الأعلى، صوب الشمس، ليتحقق ارتطام إيكاروس، ليحتفي الكون كلّه – كعادته - بالمأساة النهمة الصيفية. لم يكن سُلماً أسمنتياً أو حديدياً، أو خشبياً، بل سُلماً مجدولاً من الحبال، الخام الأول للكون، مشدوداً إلى بعضه بإحكام، ولكنك تحسب لأول وهلة أنه منتزع من شجرة الضياع لا من ألياف نخلة، وأنه لم يُخلق كيما يكون درَجاً أو مصعداً، بل تهكّماً من الأقدام، أو تحدياً لها. سلّم يبتغي أن تطأ متنه ومتانته الهشة بالمجالدة، بخفة السفر، بوفرة الإحساس بالرعب، بالضلوع التي تحوم حولها النسور والغربان، بالرؤوس التي سُلِّطتْ على مشاريعها وأحلامها البروقُ المخاتلة..
هنا نحتاج إلى المعنى الرمزي للمكنسة، لنسقطه على واقعنا الإنساني الـ"معقد" لذلك نحتاج إلى مكانس كثيرة، لنكنس بها العوالق المترسبة في أعماقنا، تحتاج إلى مكان بألوان سوداء الممكن الحسد والحقد والغيرة ونحتاج إلى مكان بألوان زاهية؛ لكن بها النفاق وسوء الأخلاق، والابتدال المعروض على الأرصفة، ونكنس الوجوه الملونة، والنفوس المتصيدة في الماء العكر، وتحتاج إلى مكان مصنوعة من الحديد الصلب لكس العوالق الصدئة التي ران على قلوب أصحابها الدرن والقسوة. أنواع كثيرة نحتاجها من الـ"مكانس"، فالمشكلة جد صعبة، وجد معقدة، فهي متعددة الأشكال والوجوه: كما هي المكان التي نراها في محلات البيع.
"متلك طلال الصلتي صوتا شعريا واضحا وأصيلا شاعر يبدأ من القمة ليرتقي عبر معراج القصيدة إلى سماواتها اللانهائية، يبتكر الدهشة ويلامس شغاف القلب برهافة متناهية، إنه شاعر مخلص للشعر ويشتغل على نصه - کما تجربته - بهدوء عمیق، غیر مستعجل الظهور أو متعجل البروز والشهرة. قصيدته مزيج من الفوضى والشك والتمرد والتصوف واليقين والعشق والانعتاق والسؤال القلق والحيرة المضنية، التي يغمسها جميعا في مياه اللغة العذبة، في صوغ منها معزوفات إبداعية ذات إيقاع ينفذعميقا إلى الروح، إنني أستطيع القول بأن طلال الصلتي من الأصوات الشعرية الشابة التي نراهن عليها في تشكيل المشهد الشعري العماني مستقبلا، لتبقى سماء القصيدة العمانية مشعة بنجومها متلألئة بأقمارها الوهاجة على الدوام". حسن المطروشي شاعر ومترجم عماني
ضجيج المرايا رحلة أدبية تطوف في طول البلاد وعرضها وهو السفر في الأسفار والصاحب الذي يقي من نیوب الحادثات وعضها مرايا ترى فيها لنفسك صورة فشد بها كفا وحل بأرضها"
اتجاه نقدي عربي يطابق التجربة الصوفية بتجارب الابداع الأوروبي الحديثة والدادائية والسريالية، وما أعتقده أن المطابقة بينها تحمل خطأ كبيرا في التقييم بسبب اختلاف الظروف الزمنية لنشأة كل من التجارب واختلاف أمكنتها، وما يجريه الباحث قريب مما نذهب إليه وهو الربط بين الشعر الصوفي في توجيه المثالي نحو الله، والشعر العذري حيث يتعلق المحب بمحبوبته تعلقا مثاليا ويتملكه شعور أخلاقي يعلي به غرائزه، محاولا مثلما كتب أستاذه عاطف جودة نصر: "إيجاد نوع من التوافق والتجانس بين ما يرغب فيه وما يخشاه في نفس الوقت".
يشكل العنوان "من أغاني الصياد" مفتاحاً للفكرة المتسلطة على النص عند محمود حمد لتكون هي وعناصر الطبيعة أقنعة الشاعر للولوج إلى عالمه الداخلي، والبوح باعتمالات النفس / الشاعرة، وقد تشكلت في النص بغنائية حزينة ترنّم بها صياد "لم يعرف شيئاً / أكثر من مزج الأيام / برائحة الجبل / الساكن في عينيه / يتوضأ بالليل / ويصنع شاي الحلم / على جمرِ (السمر) ويضحك / كي ينصف ليلته / من قلقٍ طيني / في مدنٍ تؤلمه ذكرى / حين يعود". وبقراءة هذا النص، وما يتبعه من نصوص، تتراءى للقارىء في ضوء آفاقها صورة شعرية لمساء ذلك الصياد الجالس في فضاء الطبيعة، وقد تهادت إلى روحه عبر أشذائها الفواحة روائح الطفولة، والأهل، والوطن؛ وتداعت إلى ذكرياته عبر أندائها العبقة ذكرياته الغائبة، وصورها المنبعثة من ذاك الزمان البعيد، بأيامه الآفلة، ولياليه الغاربة. "الآن مدّيني / بصبرك مرتين / طفولتي وروائح البرد / المُباغت في الحجارة / سدرة الماضينَ / أرواح القطا الآتي من / الصيف العنيد". هكذا يشارك الشاعر الصياد ذكرياته، مثلما يشارك الشعر الشاعر وجوده. يضم الكتاب (39) مقطعاً شعرياً جاءت في الكتاب بلا عناوين، وبصور متنوعة الدلالات، والإيحاءات، فكان محمود حمد خير من كتب وخير من أبدع.