وفي صباح يوم جمعة يصعب نسيانه، رأيته في ساحل «السيب» يرفع سمكة كبيرة من ذيلها. كان متوترا وهو يبحث عن سيارة أجرة؛ جبينه المعروق مقطَّب ورقبته لا تتوقف عن الدوران. اقترحت عليه أن أوصله، فرجاني أن أسرع كي لا تُفسد الحرارة سمكته. طلب مني كذلك إشعال إشارات الخطر. وحين أوصلته وهمّ بالنزول تمتم، بنبرة مَن يكلّم نفسه: الحرارة لا تُحتمَل. في المرة المقبلة سأطلب سيارة إسعاف ﻹيصال السمك سالما إلى البيت!
تدور معظم القصص في مجموعة “وجه رجل ميت” للقاص العُماني أحمد الحجري، في جو غرائبي تتكثف فيه الرؤى فيكتنفه الغموض حيناً، وسلطة الرمز حيناً آخر. وتزخر القصص التسع داخل المجموعة الصادرة عن الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن”، بأشكال متنوعة من النهايات غير المتوقعة التي تحاول أن تولّد مزيداً من الأسئلة، وتفتح المجال أمام احتمالات كثيرة قد يؤدي إليها السرد. جاءت المجموعة في ثمانين صفحة من القطع المتوسط، وكُتبت قصصها خلال مدى زمني متطاول يمتد بين عامي 2007 و2019. وتنوعت فيها الموضوعات، ما بين الرؤى الفلسفية، والقضايا المحلية المستمدة من طبيعة الحياة الريفية وشبه الحضرية في عُمان. وتبرز فيها الطبيعة العُمانية التي تحضر بوصفها خلفية لمعظم المشاهد والحكايات داخل المجموعة. ووظف الحجري كذلك فنوناً أخرى داخل السرد لخدمة موضوعات المجموعة، كالفن التشكيلي، والسيرة والمذكرات. وجاءت اللغة مقتصدة في تعابيرها، محايدة في أحيان كثيرة وتقف في مسافة متساوية بين القارئ والنص.
بعد العطاء الكلي الذي يستنفد في علاقة الأصل فيها كان الفراق لا يأتي إلا الحرمان الكلي، وكل علاقة تنبني على الحرمان هي ليست عادلة، لا تبدأ سريعا. سيجتاحك الفقد أكثر وهذا سيعلمك، سيفهمك. الم أندم على شيء كما ندمت على وقو السريع بعد كل نكبة! … أجب علي متى ما أردت، وفي الحقيقة لا يحزنني أن ترسل إلي رسالة كلامها محذوف بالكامل. أيها الطين لا تنس أنك أملك الوحيد، لكل الأشياء التي تستحقها : فليكن بعد ضلالك الإيمان.
لم تجد عطرا يوازي رائحة عرق زوجها النفاذة. تلك كانت مشكلتها منذ البداية، ومنذ الرجل الأول الذي استدرجها عطره وأزكمها بعوالم نفاذة من السحر. راحت تبحث بين رائحة الكثير من الرجال وتفتش في عالم عطورهم، لا تدري حبا أو كرها لزوجها ورائحته، استسلمت وتهاوت دائخة في أحضان الكثير من الرجال، لا تدري هل لتهرب من رائحة زوجها أو لتجد شبيها لها. لقد كانت جميلة جمالا باهرا، كما كانت في نفس الوقت حلما فائضا عن الحد، على الأقل بالنسبة لصياد سمك أصاب بعض الغنى بعرقه اليومي.
سبعة وعشرون غصنا تنوع كتابها وتعددت مواضيعها، وإن كانت رمزية الشجرة حاضرة في جميع النصوص التي احتواها العمل. وجاءت النصوص لتشكل احتفالية بالشجرة من حيث هي معنى وروح يمكن إسقاطه على كثير من قضايا عالم الإنسان، تارة بامتدادات الإنسان في شجرة السلالة الآدمية، وتارة بأحواله النفسية التي تتقلب بتقلب الفصول، وتارة بما تمثله الشجرة في حضورها الملازم للإنسان في بداوته وحضره.