لقد كان منطلق هذه الدراسة أن تعرّف - بشكل أكاديمي مشبع - بواحد من رواد الشعر العماني الحديث وعلم من أبرز أعلامه، هو الشاعر المهندس (سعيد الصقلاوي)، وذلك بأن تنزله منزلته من المشهد الشعري العام في سلطنة عمان وأن تبرر هذه المكانة عبر استعراض مدونته الشعرية ومحاولة الكشف عن أهم ما تختص به على مستويي الفكرة والعبارة.. والملاحظ في هذا البحث المعمّق أولا أن فصوله المختلفة قد تضافرت لتجسيم برنامج صاحبه فيه - على ما سبقت الإشارة إليه - وأن كلاً منها قد أفضى إلى خلاصة مرحلية تؤلف متفرقاته وتثبت نتائجه الجزئية، كما أفضت جميع فصول البحث إلى كاتمة تأليفية جامعة ترسّخ نتائجه وتكرّس تميّزه وتبرز الجهد الذي بذله صاحبه فيه، والملاحظ في هذا البحث أيضا أنه استوفى أهم الشروط والمقتضيات العلمية المطلوبة في جنسه تكاملت فيه مقوّمات محتواه وصياغته، من حيث إقناع الموضوع بجدته وطرافته واستجابة المدونة المقترحة لشرطيْ الكفاية، الكمّية والنوعية، وصلاحيّة المقاربة ونجاعتها ووضوح التناول وشموله وسلامة الأداء وإقناع الحصيلة العامة بشرعية البحث واقتدار الباحث وجدّيته، فهو قارئ جيد للشعر وصاحب قدرة باهرة على تحليله، وقد مكنه ذلك من إنجاز هذا البحث المعمّق الذي يمثل إضافة حقيقية إلى مدوّنة نقد الشعر في سلطنة عمان.
إنّ السيميائية تكشف الدلالات في حياتنا الاجتماعية التي تعيش ضمنها كما تنبّأ بها اللغوي فيرديناند دو دوسوسير صاحب كتاب «محاضرات في الألسنية العامة»، لذا فإنّ العلامات مرتبطة بحياة الإنسان الذي هو في الأصل (علامة)، يصنعها ويبتكرها، ويحملها المعاني والدلالات، فكل ما حولنا من علامات لها أدوار اجتماعية وثقافية بل وأيديولوجية. إنها ليست بريئة كما تبدو في الظاهر.
لماذا يذكّرنا هذا الكتاب بمزيج عجيب من جماليات المكان لباشلار، ومتواليّة أصلان المنزلية، وحتى فضاءات المكان لجورج بيريك؟ لا تأخذنا أمل السعيدي إلى أماكن عدّة، بل إلى ذاتها الأكثر عمقًا وتموضعها في "المسكَن" بتفاصيله الساكنة والأقل ملاحظة، من "بورتريه لفرشان الأسنان" و"مقص الحبوب المنومة" إلى "سأقتل أبي" و"في الحقل، أنا غياب الحقل" بكتابة سردية جديدة وخاصة لا تجافي الشعر ولا تتلوّن بالقصّ كثيرًا.
عشت لسنوات على أمل أن تفي بوعدها الذي وعدتني إياه وأنا أمسك بلحافها الأزرق عند بوابة السجن: «ما تخاف راشد، أجي أشلّك لما أطلع»، كل ما كنت أريده من الحياة أن تصدق في وعدها وأن تأتي، أن تحتضنني وأن تضمّني وتروي عطش قلبي وجفاف روحي، لكنها لم تأتِ، تركتني وحيداً أصارع وحش الحنين والشعور بالفقد، مرات عديدة كنت أصرخ، لقد كذبت؛ وأصبح كل شيء في هذا العالم بعد كذبتها، مجرد كذبة، كذبة كبيرة أحياها؛ كي أبقى متمسّكاً بخيط الوهم الأزرق الذي يأخذني إليها كل مساء، وأنا أشم رائحتها التي لا تشبه رائحة امرأة أخرى غيرها.
السفينة: تم بناء الهيكل من خشب الآني المختار من غابات الهند وجرى تشكيله بعناية من ألواح تصف بعضها إلى جانب البعض بتفاوت يقل عن جزء واحد من أربعة وستين جزءاً من البوصة وبعد ذلك تتم خياطة كل لوحة في موضعها بواسطة حبل من ألياف جوز الهند المبرومة باليد والمشدودة بأحكام حول حشو من قشور جوز الهند. وتحتاج السفينة إلى قشور أكثر من خمسة وسبعين ألف جوزة هند وأربعة أطنان من حبل ألياف جوز الهند لأربطة الأشرعة والصواري والمراسي وقد حملت السفينة سارية رئيسية بلغ طولها (75) قدماً.
"في كل لحظة، وبغية أن نبقى أحياء، يتحتم على خلايانا أن تعرقل على نحو متواصل، بل متصاعد، شيئاً يريد أن يموت. على الرف العلوي من خزانتي، وتحت زوجين من الجوارب الطويلة، تقبع كينونات مفزعة في صندوق بلاستيكي مهترئ. خلايا تكاثرية مدمرة لمريض يدعى آدم. مشهد تراجيدي مجمد على قطعة زجاجية رقيقة حادة الحواف. على مدى السنوات الماضية، ولغاية لا أعلمها، كنت لا أزال احتفظ بعينة آدم المشؤومة، إرثه الوحيد. إذا كان ثمة شيء آخر يمكن أن تقدمه إلينا تلك الكائنات القذرة غير المعاناة المروّعة والبؤس الإنساني، فهو التعريف الواضح للحياة عندما لا تكون هي الأصل، بل الموت".