عند نبع الماء، كان سعد بن الحارث يروي أغنامه وأغنام والده الكثيرة، ودائما ما يركن إلى الصمت وهي صفة الحكماء، فهو يحب أن يستمع لما حوله من طيور وخرير ماء وحفيف أشجار، وهو كذلك يجب أن يكون مستمعًا جيدا إلى الآخرين تنفيذا لوصية والده اليومية: "إذا أردت الحكمة وهدوء النفس فاستمع الحبيبات الرمل عند اصطكاكها ببعض وتقلبها على ظهر أمنا الصحراء، وإذا أردت لسانا فصيحا فاستمع للآخرين وألصق سمعك بأفواههم ولا تشغل بالك بإعداد الرد المقنع فإنه لا محالة سيأتي بنفسه".
كثيرة تلك الحقائق الموغلة في التاريخ، والبطولات الإنسانية الغائبة عن الأجيال المعاصرة التي زهدت في الاطلاع عليها لأسباب عديدة. لكن لا سبيل لتقديمها عذبة دافقة إلا بالخيال واللغة السلسة والسرد المتأنق وهذا ما حاولت أن تقدمه رواية "بيعة الروح".
في (عاشق القمر) نجد أن كتابة القصة القصيرة عند الأستاذ خليل خميس تقدم نفسها للقارئ بسيطة وسلسة ومحملة بالمعاني الكبيرة التي قد لا يتحملها کاهلاها الصغيران، ومع ذلك تناضل ببسالة لتقوم بهذه المهمة الجسيمة.. إنها قصة تربوية، إن صح هذا التعبير، لا يهمها فعل القص كهدف بحد ذاته، بل تتخذ منه وسيلة التبليغ رسائل تختلف أبعادها من قصة إلى أخرى، لذا نجدها تحاول جاهدة مطابقة الواقع في تنوعه وتناقضاته، وكأنها مرآة صقلية ينعكس عليها سلوك الناس وأفكارهم وهمومهم وانشغالاتهم. إنها -بمعنی ما- قصة ملتزمة تؤمن بالهوية وتعض عليها بالنواجذ، وتجد أحيانا في التاريخ داعما قويا لهذا التوجه الذي ارتضاه الكاتب لبعض قصصه من خلال استلهام بعض أحداثه.
ذيل الكاتب روايته بـ كان دائما يحب أن يقرأها مع نفسه، يعتبرها مددا روحيا لا يستغني عنه، فإذا ادلهمت أوقاته وعصفت به الهموم يرجع إلى ذلك الدستور الذي تبدأ أول جملة فيه: اعتن بنفسك يا أيمن، اعتن لي بأيمن يا أيمن..
تركني في هذا الفراغ السحيق كهوّة بئر يسقط فيها المرء ولا يصل إلى القاع، لقد تركني في دوّامة من الرعب، شعرت أنّ ثمة عيوناً تفتح من تحت الأرض تراقبني، كان كل شيء يتحرّك من حولي. كان الأصوات تنبعث من كلّ مكان، أصبحتُ وحيداً بين تلك الوهاد والحفر المظلمة، لقد تحوّلت تلك الخفافيش إلى جثثٍ معلّقةٍ مرعبة. لم يكن أمامي سوق الانطلاق نحو ذلك الضوء الخافت البعيد، لم أشعر بقدميّ من شدة الخوف، كنت أعدو عدواً وأسقط عدّة مرّات لكنّي أواصل المسيرة، أتوقّف قليلاً لتأمّل كل حجرٍ تدمى عليه قدمي، كم عوت الذئاب المعربدة على ضفّة الوادي وأنا أهدهد جمرة الخوف بالآيات القرآنية والدموع!... لم أكن أشعر أنّي اقترب من الضوء لكنّي ما زلت أمشي وأمشي...