إن السر فيما كتبه تشيخوف هو أن خامة أدبه تشبه قماشة الحياة، وأن فرادة فنه تكمن في بساطة ذلك الفن، وفي اقتصاده واكتفائه ببنية الأسلوب الكلاسيكي وقواعده. فهناك الكثير من الكتاب ممن التزموا الأسلوب الكلاسيكي في تأليفهم، بيد أنهم لم يتركوا الأثر الذي تركه تشيخوف في الأدب العالمي، وفي نفوس القراء على حد سواء. إننا حين نتحدث عن بساطة أسلوب تشيخوف ووضوح لغته، نعني البساطة والوضوح اللذيْن يشيعان في أجواء قصصه، وليس بالضرورة بساطة المفردة التي يستخدمها ووضوح التركيبات التي يولِّدها. كتب تشيخوف القصص المختارة هذه بين أعوام 1880 – 1886؛ أي وهو ما بين العشرين والسادسة والعشرين من عمره، وباستثناء قصة «من يطارد أرنبين لن يفوز بأي منهما» فإن باقي القصص، وبعد مراجعة أشهر ترجمات تشيخوف إلى اللغة العربية، فهي تترجم للمرة الأولى.
«عندما يكون العمل متعة، فإن الحياة سعيدة! وإن كان العمل واجبا، فإن الحياة عبودية»، ذلك ما صرح به الكاتب الروسي للقصة القصيرة والرواية وأدب السيرة الذاتية والدراما والصحافي الكسندر مكسيموفيتش بيشكوف الشهير بلقبه مكسيم غوركي وغوركي تعني المرير. وهو من رواد الأدب الروسي ومن جيل أنطون تشيخوف ومؤسس أدب الواقع الاجتماعي الذي شوهته الشيوعية ليصبح الأدب الاشتراكي المستبد. اعتبر مكسيم غوركي الذي ولد في 16 مارس عام 1868 في نيزني نوفغورود، أديب شعب روسيا وممثل الطبقة الدنيا التي سحقها الفقر اولا خلال حكم القيصر ومن ثم الاضطهاد والدكتاتورية لمختلف الفئات بعد الثورة البولشوفية. تجلت عظمة أدبه في كتابته عن صراع ومعاناة وآلام الطبقة الدنيا من المجتمع، التي ينتمي إليها وعايش كافة جوانبها ابتداء من طفولته وحتى أصبح كاتبا شهيرا. عاش مكيسم يتيما بعدما توفي والده بالكوليرا حينما كان مكسيم في الخامسة ووالدته بمرض السل بعد سنوات معدودة. اعتنت به جدته التي كان لها تأثير كبير على حياته فمنها استمد حبه وتعاطفه مع الفقراء ومن قصصها وحكاياها اغتنى خياله. أجبره جده القاسي على ترك الدراسة والالتحاق بالعمل قبل بلوغه العاشرة وحاول الانتحار حينما كان في التاسعة عشرة من عمره وذلك بعد وفاة جدته التي كانت أعز مخلوق عنده.
الأمطار زادت غزارتها وكأن السماء أمست قربة ماء هائلة شقت طولا بخنجر حاد، الرياح ترقص رقصة الجنون دونما توقف، وأصواتها عويل عجائز إثر جائحة عظيمة، سمحة في طريقها إلى حتفها المحتوم حيث تبدى لي الجبل موت عملاقة باسط ذراعيه يستعد الاحتضاتهم. فلك عظيم يجري في أمواج أعظم، المرة الأولى التي أشاهد فيها سمحة، تبحر من بعيد ولست فيها، رأيتها هائلة الحجم، فمة البناء، متماسكة البنيان، كأني أشاهدها للمرة الأولى، تبحر بتصميم إلى هدف مكتوب, تخترق أمواجاً وتركب أخرى، مليئة بالبشر وتكاف من أجل الحياة وسط بحر لجي مظلم.
أفكر بصوت مكتوب، وأعيش الحياة فكرة بعد فكرة وأدون الحروف على شاكلة يوميات حتى تبقى لأمد طويل، وحتى أعود لها بعد حين فأدرك أي فكرة تلك التي خطرت على بالي ذات زمن، وأي حالة شعورية تلك التي كنت أعيشها، التفكير بصوت مكتوب يتيح للفكرة أن تبقى، وللخيال أن يرسم على الورق، وللكلمات أن تعبر محيطها الضيق حتى تصل إلى الآخر، فتلتقي وفكره المشابه أو تثير لديه فكرة أخرى مختلفة، وفي كل الأحوال تثير الفكر وتحرك مستنقع التفكير.
كان اللقاء سريعا ولدقائق معدودة ، قال لي وبكل ثقة أن الكثيرة قناعاتي ستتغير بعد قراءة الكتاب ، وفعلا كان التغير كما أخبرني ولعل التغير الذي صنعه الكتاب كان على المستوى العملي ، أما التغيير الذي أحدثه اللقاء الأخير فقد كان درسا من أعظم دروس الحياة وللقاء الأخير طاقة على إحداث الكثير من التغيير خصوصا حين لا نعرف أن اللقاء الأخير إلا بعد فوات الأوان ، وكان آخر عهدي به کتاب ، الكتاب الذي احتفظت به لأشهر كذكرى قبل أن أتبين أن هنالك من هو أحق به وأن له مكانه الصحيح الذي لابد أن يعود إليه.
قريبا جدا سأصير يتيما، لن يترك أبي شيئا عدا حماره هذا، ونخيلا بعيدة في أرض بيت المال، سنعيش أنا وأمي وحيدين في بيت لا نملك له ملكيّة، ظل يحدثني أنه لن يترك شيئا عدانا، يقول أنتما ريحانتاي، أنا كنزه الوحيد، يريده عظيما قويا صلبا. لن أنساه، كان قد قال مرة: «أريدك كهذه الجبال»، أشّرت أصبع من يده اليمنى نحوها، كانت شامخة وقاسية، صلبة حمراء كدم الشهيد إذا جف على الأرض. «لا تنحن أبدا، حتى لو جاءك الموت افتح له قلبك، دعه يدخل مطمئنا ليوقف نبضاته، سترتد روحك إليه؛ لتنعشه في القبر، عش شامخا كهذه القمم التي جاورتنا الآن».