في الرمق الاخير من اليل .. تنبثق متر هلا للعتمة الرابضة في المستنقعات .. تعلو شفتيك ابتسامة عمياء، وفي حديقتك زرقة البحر واتساع الصحراء. تنمو فوق لسانك الكلمات المخضرة كالربيع. تنمو .. فتتناثر أعضاء في الاعتداد. تحرقك التساؤلات .. وتقرع جمجمتك الطرية النواقيس الممتدة حتى أبعد نجمة في درب التبانة. تتشظى من أمامك المرئيات، وتنشطر من فوق لسانك الكلمات المنضرة فتبكي. يحويك الضباب الخانق. ويلفك التسكع بلغة الدوران في المدى. تغبر مقلتاك وتتوهن عظامك وتتقصف على ذاتك الساخطة إيماءة بقنوط ضارم وياس سميت. يتجعد و جهک وتنسحق فتاتا في سبيل التواجد المجبول على الصمت. وساعة الاندثار العصيبة .. ترغب في ركعة عميقة لزرقة السماء الغائبة. هذا هو
مضيتُ في اليوم التالي أُخبر الجميع عن علي، طرقتُ أبواب الجارات واتصلت بالبعيد منهم في عدن والحديدة وتعز والخُبر "عُلا أصبحت علي"، وقضيتُ أكثر من ربع ساعة أتحدّث بالهاتف مع أم شرف في الخُبر والتي لم تشأ أن تصدق ما كانت تسمعه مني، فعقّبت على حديثي مستهزئة:-إذن عقبال ما انشوف أولاده.-سترين يا أم شرف، الزمن كفيل أن يبصرك بالحقيقة. أرد عليها بكل ثقة. بيد أن موت عبد الرحمن المفاجئ وإضطرار علي للعودة إلى صنعاء، وكان لا يزال بعد بجسد الأنثى، أضاع كلامي كله وأراق ماء وجهي أمام الجميع، ففي حالته تلك، مع وجود النهدين في مكانهما، لم يكن مقبولاً أن يرتدي (الثوب) ليشارك الرجال في مجلس العزاء، ولأنه بالفعل غدا رجلاً، فلم يكن ممكناً ان يجلس وسط النساء، بقي حبيساً داخل غرف البيت.
آدم عليه السلام نزل على الجبل الأخضر، تلك حقيقة لا يمكن لأحد إنكارها بعد اليوم، يجزم بذلك البروفيسور سالم الكندي عالِم الأنثروبولوجيا المعروف دولياً ، وكان يُجهّز الدلائل العلمية لإثبات ذلك الاكتشاف المثير للجدل. لكن يواجه من يسعى لتحطيمه وتدمير مشروعه الخطير ذاك ووأد نشاطه العلمي الخصب، ربما لكونه عربي في المقام الأول ويحاول الخروج عن المألوف. مروة الأردنية الأمريكية، طالبة الماجستير، الجيولوجية، التي وكأنها خرجت من بطن أحلامه القديم لتتجسد حقيقة باذخة الجمال أمامه، كانت الأداة التي أرسلت لتحطيمه كما صدق بذلك في سرّه، فهل وفقت في هدفها أم أن البروفيسور كان له رأي آخر رغم استسلام روحه لها.
تدور أحداث الرواية التي يؤكد كاتبها في المقدمة بأنها ليس “تأريخية وإن بدت كذلك” في بلدان صحراء بحر العرب المتاخمة لسواحل بحر العرب الذي يمتد وتتداخل مياهه مع مياه المحيط الهندي الشاسع، لكن بلدة “محوت” الصحراوية القاحلة هي التي تدور فيها معظم أحداث الرواية. برّ الحكمان أبسط ما يقال عنها أنها تختلف تماماُ عمّا كُتب في السابق عن حياة البدوي وصراع البقاء في الصحراء، لكن أكثر ما سوف يلحظه القارئ في هذه الرواية هو قدرتها على أسر الإنتباه منذ البداية وحتى النهاية، من غير أن تترك للقارئ من مجالٍ للتوقف بسبب تلاحق أحداثها وتطورها المستمرالأمر الذي يجعل القارئ في حالة استفزاز في معظم الأحيان في ترقب لمعرفة ما سوف يأتي.
تراني أدركت، لحظتئذ، أن التاريخ كله قد يُختصر في ذاكرة أو في رسالة. أنت وحدك كنت تعرف أن ماضياً مثل هذا لن يكون حبيس خلايا ستموت بموت صاحبها. ألم يعد ضرورياً أن أضع عليها شيئاً من طفولتي؟ شيئاً من ذاكرتي معك. ها أنا أعود لأرسمكما معاً في لوحتي، شيءٌ يتعدى الإبداع إلى الجنون ويتجاوز المنطق إلى الخيال. هي اللحظة التي أنتظر فيها أن تلتقيا، فألتقي أنا مع نفسي أخيراً. فما أحوجني، بعد كل تلك السنوات، إلى أن أراك تستعيد شيئاً من ماضيك. تراه ماثلاً أمامك، تخاطبه، تنظر في عينيه، تذهبان بعيداً، حيث لا شيء سوى الذكريات. يستيقظ ذلك الماضي كله دفعة واحدة. فلا تَوَقّد الذاكرة ولا غضَاضةُ المشهد يسعفانني على التوقف. فما لا يقارب بين شموخ جبال الحجر في عمان وبين نظيراتها قمة شمبريس في الصومال أو حتى عند ساحل أمالفي في إيطاليا، يُظهره التاريخ عند نقطة التقاء واحدة، هي ذاكرة أولئك الذين جابوا تلك الأصقاع بحثاً عن الثروة أو المجد أو كليهما. وإلا فكيف لذاكرة فتى القرية الوادعة في أحضان جبال الحجر أن تلتقي بذاكرة بروفسور التاريخ؟ وأين؟ في إيطاليا. وكأن بالذكريات التي نسرف في تعاطيها فتسري في عروقنا غبطة ونشوة، تزداد تشعبا وتعانق بعضها البعض متجاهلة عقدة الزمان والمكان. هكذا يستدرجني خلَف إلى دهاليز الذاكرة. لم يتورّع خلَف عن أن يكون في كل ذلك التاريخ الذي قرأت، بدءا بجيوفاني تيبولو وليس انتهاءً بألبرتينو أرنالدو.
"سوف يطارده وجهها كثيراً، هل هذا حلم؟ كان يسأل نفسه، من هي؟ لا يعرفها حتى ذلك الوقت، لكن عندما هبط به الطائر على مرج أخضر ممتد تسيل الينابيع بين تلاله الحجرية الصغيرة، وألقى به على بساط أخضر من العشب فوجدها تقف قريبة منه، هي ذاتها، المرأة التي كانت تقف عند الباب، التي ابتسمت له، هي ذاتها الابتسامة، وقف على قدميه، شعر في البدء بثقل في رأسه، شعر وكأن دواراً قد أصابه من هول المفاجأة،"