طيّرت الملك في سماوات الله الواسعة عشر سنوات، في غمضة عين استجوبني الأمن، متهما أني كنت أنوي إسقاطه من طائرته الملكية، شيع أني سأعدم، أقسم آخرون بأني في حكم المؤبد، لكن الله أبطل الإشاعة والقسم، جعلتني الحياة الحديثة في حكم الباحث عن عمل، وجدت مزرعة جدي تبحث عن عامل وطني، استزرعتها بطيخا، فآوتني حياة الأحرار الكادحين. وصلت مسجدا قريباً من سوق قديم، كانت الساعة لم تصل الرابعة مساء، تذكرت الملك عندما رأيت اسمه في حائط من رخام، يفيد حائط الذكرى أن المسجد بني على نفقته الخاصة، و افتتح ظهر يوم الجمعة تحت رعايته الكريمة، أرعبني اسمه، تذكرت سنوات السجن، قبل أن يقتله السرطان الذي تلذذ بجسمه، تم الإفراج عن المعتقلين وأحلنا نحن عسكريَّ الأرض الطيبة إلى التقاعد، بما أن راتبي غير كاف لإعاشة أولادي كان علي استزراع الأرض، وبيع البطيخ، كلما نضج واصفر لونه الخارجي. صليت، ووقفت أدعو أمام حائط الذكرى على أعوانه الباقين في أرضنا الطيبة. أوقفت سيارتي في سكة تؤدي إلى السوق، وجدت الناس متجمعين حول فواكه وخضار، ناديت رجل أسود، أخبرته أني معي بطيخا للبيع، أنزلنا البطيخ وراح يرفع صوته في الناس.
أن تكون حاضرا هناك، في لحظة بائسة من عُمرك، لحظة تُدرك جيدا أنّها لن تمضي إلى النسيان مهما اجتهدت لتفعل. لحظة واحدة سيتكلم عنها الناس لأيام وأسابيع وسنوات، وسيضيفون إليها من أحزانهم وتصوراتهم كما يرغبون لتغدو أكثر دراماتيكية، ومن ثمّ سيمضون لحيواتهم المختلفة بعد أن يغرسوا خناجر شديدة السُمية وقاتلة في قلب الأمّ، حتى وإن لم يتكلموا بشيء جارح، ستقرأ الأمّ في أعينهم كل الكلام المُخبأ والذي لا يجرؤون على قوله.
حين رأَتْ مِيا عليّ بن خلف، كان قد مضى سنوات في لندن للدراسة وعاد بلا شهادة. لكنَّ رؤيتَه صَعَقَتْ مِيا في الحال. كان طويلًا لدرجة أنَّه لامسَ سَحابةً عَجْلى مرقتْ في السماء، ونحيلًا لدرجة أنَّ مِيا أرادت أن تسندَهُ من الريح التي حَمَلَت السحابة بعيدًا. كان نبيلًا. كان قدِّيسًا. لم يكن من هؤلاء البشر العاديِّين الذين يتعرَّقون وينامون ويشتمون. «أحلف لك يا ربِّي أنِّي لا أريد غيرَ رؤيته مرَّة أخرى». رواية من سلطنة عُمان تتناول تحوُّلات الماضي والحاضر، وتَجْمع، بلغةٍ رشيقةٍ، بين مآسي بشرٍ لا ينقصهم شيءٌ ومآسي آخرين ينقصُهُم كلُّ شيء. جوخة الحارثي كاتبة وأكاديميَّة من سلطنة عُمان. صدرت لها عن دار الآداب رواية «نارنجة» الفائزة بجائزة السلطان قابوس للرواية.
أيها الفقراء، والمحزونون، والبائسون، والمحرومون، والملتحفون عن البرد بالبرد، والجائعون، والمشردون، وساكنو مشاي المجاذيب، والضعفاء، والحالمون بالعدل والحرية، والمستضعفون، المرضى بلا أمل، والمغضوب عليهم بظلم، والضالون عن سبل الهدى، والتواقون إلى الموت وقد فقدوا أسباب الحياة، والساکنون عراء الأرصفة وفتحات التصريف، واللاجئون من عنت الساسة، والمهجرون، وأسارى الحروب، والمستعبدون، والمهملون في دور الأيتام أو ملاجئ العجزة. إن آلامكم وخزات دفعتني -كما فعلت بكثيرين غيري- إلى التفكير والكتابة عن هشاشة الحياة وزيف الأخلاق. ولكم فقط أهدي هذه المجموعة.
مع ذلك فإنَّ ما حَدَثَ البارحةَ كان أمراً صغيراً بإمتيازٍ، أمراً عَرَضِيّاً يَحْدُثُ دائماً، حتَّى إنَّهُ لا يجبُ أنْ يُحْدِثَ أيَّ تأثيرٍ، لكنَّه، وللغرابةِ وحدَها، أحْدَثَ تأثيراً، تأثيراً غريباً جدّاً، فهو لم يَكْتَفِ فقط بإستبدال الهدوء بالصَّخبِ، بل أيضاً أضفّى على الجَوِّ كثافةً ما تُشْبهُ الرُّطوبةَ في ثِقَلِها، لكنَّها ليست الرُّطوبةَ، فهي أشْبَهُ بالإمتلاء الذي تُحسُّ به في فمها عندما تبتلعُ قطع حلوى "الماشملو" الإسفنجية الكثيفة الناعمة التي تبعث فيها الإحساس بأن كل المجسات الدقيقة على لسانها وكل خلايا فمها راضيةٌ تماماً، راضيةٌ ومُمتلئة.