الأمة التي ابتلت أو أبلت نفسها بداء غيبوبة الوعي بسبب تقصيرها في حق نفسها، عليها على أقل تقدير تناول ترياق السؤال، السؤال عن كل شيء، وفي كل شيء، عليها أن تعيش حياة السؤال؛ لأن كل العلوم والأفكار والفلسفات جاءت من رحم السؤال، والسؤال المناسب المسقط على الواقع غير المناسب يفتح آفاقاً معرفيةً جديدةً وفضاءً واسعاً من الأجوبة، أجوبة كانت بعيدة عن وعينا قبل رمي حجر السؤال في بئر طمأنينة الركود الآسن. السؤال أول مختبر عرفته الإنسانية على الإطلاق، كان السؤال وما زال مجس الفلاسفة ومسبارهم، علينا إستخلاص الربح من فم الخسارة، علينا تحويل حجر العثرة، عثرة التمسك بالظنون (الحقائق) المسكونة في المعتاد والمقلد إلى حجر طلق وكسر، طلق نحو الأفق الأعلى، وكسر سقف الأفق المصطنع جراء الظنون والأوهام المتراكمة على النفس والفكر، لا سيما وإن من طبيعة الأوهام في فترة غياب الوعي النمو والزيادة، ومن أخطر الأوهام على الإنسان وهم إعتقاده أنه بلا أواهم... عاتق المسؤولية ملتقى على كاهل الجميع، على كاهل كل المجتمعات العربية بمشرقها ومغربها، ولا يتأتى ذلك إلا بعد إعادة تدوير فوهة الوعي العربي، وعلى الناصح في هذه المجتمعات قلب أوعية الوعي إلى أصولها المفروضة، قبل أن يُلقي في روع مجتمعه النصح والإرشاد، فالكأس مقلوبة الفوهة لا تمتلئ بالمال وإن طُرح فيها نيل مصر والنيلين (دجلة والفرات)، أما الكأس شامخة الفوهة فقطرة من غيث السماء تملأها...
في البدء، نتعلم الكتابة والقراءة بخطوات بطيئة جداً، وبطريقة تدعو إلى الشفقة، حينما نتكلف كتابة حرف الضاد، ينتفض القلم بين حواف الإصبعين من الخوف لهذه المغامرة الكبرى، مغامرة لكونها التجربة الأولى لنا في قائمة التجارب، فما نراه اليوم تافهاً سهلاً بسيطاً، كان في مرحلة الطفولة جاداً وصعباً. ومن حسن الحظ، من رتب حروف الأبجدية في اللسان العربي، كان عربياً فصيحاً، ولو لم يكن كذلك، لما كان تسلسل الحروف الأبجدية كما هي عليه الآن؛ تسلسلاً يبدأ من السهل ثم يتصاعد قليلاً، ثم يعود سهلاً فصعباً حتى ينتهي سهلاً كما بدأ. ذلك الحصيف الفصيح الذي سَبَكَ الأبجدية العربية بدراية وإتقان، ما كان له أن يغفل من تناول السهل الفرد من الحروف ويبدأ به، لذلك بدأ بحرف الألف، ذلك الحرف المجرد من الزوائد والندوب، حرف يُشبه كل شيء، وأي شيء، ويمكن أن يتصوره أي متصور على أي هيئة وشكل، فالألف كالواحد، والألف المهموز كالمئذنة المهللة. فكل طفل عربي في الغالب بدأ من حيث بدأ كل طفل عربي آخر، بدأ أول تعاطيه مع الأبجدية بحرف الألف، ولكل طفل عربي قصة وحكاية تربط مع حروف الأبجدية في سنيه الأولى، ومع حرفي الألف والضاد على وجه الخصوص.
هنا ستجدون نورجان الطفلة وكيف عانت من عصابات الاستعباد وآلامه طوال حياتها. هنا ستعايشون مجد قلهات العمانية وأميرتها مريم وسطوة النواخذة وجبروتهم كعلي بن ناصر وعمران وبرغش. هنا سينتصر أهل الظلم كثيرا ولن تجد في الرواية أي بطل!
حزينة هي الشوارع، التي انطفأت فيها ارواح العابرين عليها، مليئة بالدموع، تلك الاعين التي لا زالت تنتظر عودة المحبين، كئيبة تشعر بالغربة تلك الوجوه التي يرتسم على محياها تفاصيل الراحلين، باقون لوحدهم، بإنتظار موعد، عودة الغابرين، دون اصواتهم، دون اجسادهم.
بطلها مصاب في حادثة غيرت مجرى حياته، فقد جعل من الآكل أكلا ومن الجافي حلاوة، فتفوقت مكاسبه التعبيرية على ما بدا خسارة جسدية. فلئن كان عالمه الذي يتحرك فيه جسديا قد أصبح أضيق مكانا، فإن عالمه الإبداعي قد أتاح له أن يكون أوسع تحركا، ومحبيه ومتلقيه أكثر جمهورا. فهذه السيرة نموذج حي على انتصار الإنسان على أقسى ما يواجهه إنسان من معوقات، شعاره ما لا يميتني فهو يحييني. وللصبر فيها معنيان: الصبر المعروف بمرارته، والصبر بمعنى قوة الاحتمال على تذوقه بل وعلى استثماره، فهي وإن كانت كارثة شلت جسده فقد أيقظت موهبته الإبداعية فأثمرت تفوقا وليس مجرد تصالح مع الإعاقة. والكتاب في طبعته الرابعة لا يقدم لنا فقط ما تطور إليه الأدب العماني الحديث في السنوات العشر الأخيرة من نصف قرن النهضة العمانية المعاصرة بحيث أفرز لنا أدب السيرة الذاتية بعد الرواية والقصة القصيرة والشعر الحداثي، بل قدم كوكبة من الرؤى النقدية المتميزة التي أفرزتها هذه السيرة. إنها عمل إبداعي يدمج المتعة بالفائدة. يوسف الشاروني/ ناقد وأديب مصري
نقدم للقارئ الكريم هذا الكتاب الذي يتناول سيرة الشيخ أبي الفضل محمد بن عيسى بن صالح الحارثي، هذه الشخصية الحافلة بالحياة والنشاط، والتي تثير الإعجاب، وتسترعي النظر، والذي يعود نسبه إلى الشيخ العلامة راشد بن سعيد بن رجب قاضي الإمام سلطان بن سيف اليعربي. هذا البيت الذي أنجب علماء وساسة وأدباء وقادة، ومصلحين على مدى ثلاثمائة سنة وتزيد، من بين هؤلاء الشيخ أبو الفضل الذي حاز الرئاسة والأدب. وتزعم رئاسة قومه بعد والده، وكون لنفسه علاقات حميدة مع الإمام عبد الله الخليلي والسلطان تيمور ثم ابنه السلطان سعيد، وغيرهم من شيوخ ساحل عمان الشمالي، والشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين، والسلطان خليفة بن حارب سلطان زنجبار. كان على قدر من الاحترام والإخلاص، والأمانة، والصدق، وذا همة عالية، وله منزلة كبيرة بين القبائل العمانية، والأعيان والسادة، شأنه شأن والده عيسى وجده صالح ذوي الرئاستين.