هل تحققت تنبؤات ألكسندر تشايانوف في هذه الرواية الديستوبية؟ هل أصبحت موسكو مدينةً فاضلة، عمادها الفن والثقافة، وقد سخر العلم لخدمة الإنسان؟ أسئلة كثيرة ستتوارد إلى ذهنك وأنت تقرأ هذه الرواية الاكتشاف، فبطلها أليكسي كريمنيف يُغمى عليه عام 1920 ليستيقظ في «1984»! (أي قبل أن يكتب جورج أورويل روايته الشهيرة بـ 29 عاماً)، وعليه فإنك ستخوض غمار رحلة خيالية تتخطى الخيال إلى الأفكار والطروحات، إلى الحب والمشاعر الغامضة، بينما يتكامل تشييد تشايانوف لمدينة أشبه ببرج بابل، لكنها لا تخلو من أسباب انهيارها.
ما أقسى الوطن حين يخذلنا! ما أقساه حين لا يقابلنا بذات الحنين إليه! ما أقساة حين ينكر أبناءه! ولا يأبه بهم، حتى لو تشردوا في سواه آه يا وطني.. ما أعجبك حين تكون أنت الوجع ومنك الوجع وإليك نشكو الوجع! مطايا الشوق رواية تاريخية تتقفى سيرة الأسلاف، والأشواق المتناثرة في دروبهم، هناك حيث يسير كلٌّ إلى غايته، منهم المشتاق إلى ضفاف وطنه، ومنهم إلى مرافئ قلبه، ومنهم إلى عرش أجداده، ومهما اختلفت الغايات، إلا أن دروب الوجع واحدة، فجميعهم ينزفون أعمارهم، وأحلامهم، حين ساروا تحت ديمة الأمل في رحلة البحث، فمنهم من يصل، ومنهم من تخونه أقداره. كما تسير الرواية أغوار القلوب، أحلامها، وإنكساراتها، في تلك اللحظة حين يحاسب الإنسان ذاته، ويختبر إيمانه، وصدق معتقداته، ليكتشف حقيقته عند نهاية الطريق. صراعات وخيانات وتناقضات، تجتمع في ملحمة سردية مليئة بالأحداث والتشويق، يقدمها لكم الكاتب؛ على أمل أن تشرق بها قلوبكم، وتزهر معها أرواحكم.
يهرب سالم من أبيه الصارم ومشيخته في «وادي السحتن» إلى «الإمبراطورية الصغيرة» حيث الأرض التي سقطت بين ثلاثة جبال «وادي عدي»، ليجد فيها ملاذه ومستقره، بينما قرع الطبولِ لا يفارقه. إنها طبول الهرب والجوع نسمعها خارجة من أحشائه، إنها طبول الطموح والأمل، مصحوبة بالمجهول والمرتقب، وهي تعلو وتبطئ وتسرع على هدي هذه الرحلة الروائية البديعة التي ينسجها الروائي العماني محمود الرحبي بإيقاع تخييلي وتوثيقي، مازجاً الأغاني الشعبية بالصلوات، والتمائم بدخان السجائر، والرغبات الصاخبة بهدير مكيفات الهواء.
هذه القصص هي خليط من الواقع المعيش والحكايات المتخيلة والفانتازيا السحرية، ولعلها تصنف في جنس التخييل السيري، الذي يقتضي تشييد بنية السرد على تجارب ذاتية؛ بصفتها منصة للولوج في عملية التخييل السردي؛ إذ يحصل امتزاج بين الحقيقة والخيال والرؤى الفلسفية والتجارب الحياتية، بل يحصل حوار بين العقل الفيزيقي والروحاني الميتافيزيقي والفانتازي، وإن كان الكاتب قد ارتكز بشكل أساسي على واقع الحياة وجانب من السيرة الذاتية، إلا أنه وظف أيضا لغة الخيال الشعري ودس رموزاً وعلامات دالة على المعاني والمدلولات، من ثم تحتاج إلى قراءة سيميائية تكشف عن العلامات المضمرة والشبكات الدلالية في نسيج السرد، وصولا إلى مقاصد السارد التي تمس واقعا مدركا، وتستشرف مستقبلا واعدًا
هذه الرواية المفعمة بعلاماتٍ سيميائيّة دالةٍ، يقتضي تتبّعها الإشارةَ لمظانِها، ففي مستهلِّ الروايةِ خلعَ هيغلُ العمامةَ، وحلق لحيتَه المنفوشةَ كالقناعِ الأسود، فسقط الشعر كفراشات تسقطها النّار الملتهبة، وبعد هذا الفعل ظهر جمال وجهه، سرّح شعره وارتدى ثيابًا عصرية، فأحسّ بملامسة الهواء لجلده لأول مرة في حياته، بدأ تاريخ مولده الجديد، شرب البيرة، وحين جلس في البار لمْ يتعرّف عليه أصحابُه، بل ظنّوا أنّه تمرّد، ولمْ يفهموا أنّه عاد لفطرتِه، فأصبحَ ينامُ بعمقٍ ويفيق على صوت العصافير، ويستنشق هواء عليلًا، لقد تخلّص هيغل من الوهم، وقرر أن يُعمِل عقله من دون خوف، وأن يعيش كما يشاء الدكتور أدهم القاق
قال له صديق قديم كان يزوره في نهايات كل أسبوع: عليك أن تغير مكان إقامتك، مثلك ينبغي ألا يسكن هذا المكان المتهالك. يدرك هارون الرشيد أن هذه البناية التي تقع على ضفة شارع الفراهيدي قبالة مسجد السلطان قابوس في روي، ما عادت تتحمل أمثاله. إنها بناية تئن تحت وطأة الروائح الزنخة القادمة من وراء البحار! يدرك أن لديه القدرة الآن على أن يختار المكان المناسب الذي يريد، لكن المكان المناسب هو هذا المكان، فشقته هذه تذكره بأن احتمالاته ما زالت غير مضمونة تماما، كما أنها تحمل ذكريات لا يريد الاستغناء عنها، ذكريات صاخبة جدا، ذكريات أغلبها حلولا مرارة فيه. قبل عدة سنوات فقط كان جرس الباب سيصدر نغمة مألوفة له، سيبتسم حينها، ويفتح الباب. ها هي غرايس تطل من خلف الباب، تطل بهيةً نظرةً، مملوءة بالحياة. ستقول له: أي ميس يو! سترتمي في حضنه قليلا، وتهديه قبلةً عاشقة، قبل أن تعاتبه لأنه لم يتصل منذ يومين.