إن السر فيما كتبه تشيخوف هو أن خامة أدبه تشبه قماشة الحياة، وأن فرادة فنه تكمن في بساطة ذلك الفن، وفي اقتصاده واكتفائه ببنية الأسلوب الكلاسيكي وقواعده. فهناك الكثير من الكتاب ممن التزموا الأسلوب الكلاسيكي في تأليفهم، بيد أنهم لم يتركوا الأثر الذي تركه تشيخوف في الأدب العالمي، وفي نفوس القراء على حد سواء. إننا حين نتحدث عن بساطة أسلوب تشيخوف ووضوح لغته، نعني البساطة والوضوح اللذيْن يشيعان في أجواء قصصه، وليس بالضرورة بساطة المفردة التي يستخدمها ووضوح التركيبات التي يولِّدها. كتب تشيخوف القصص المختارة هذه بين أعوام 1880 – 1886؛ أي وهو ما بين العشرين والسادسة والعشرين من عمره، وباستثناء قصة «من يطارد أرنبين لن يفوز بأي منهما» فإن باقي القصص، وبعد مراجعة أشهر ترجمات تشيخوف إلى اللغة العربية، فهي تترجم للمرة الأولى.
في البدء كان المكان: بهلا، حيث مستودع الأسرار المنثالة من التقاء الجبال بالصحراء، وحيث الإنسان الذي عشق الأرض، محضها العمر والعمل والحُلم، فولدت المدينة، ثم نمت، فتمددت، ومثلما تولى السور الكبير بصباحاته وبواباته المتيقظة وظيفة حراسة المدينة من مفاجآت الخارج؛ تولت المكتبات، من الداخل، بتعددها وثراء مكوناتها الحِرفة الأمضى أثرا: الأمضى أثرا: التعليم. إن مكتبة الندوة العامة كالإنسان الذي عاش على أرض بهلا تجري في عروقها وتحتفظ في جيناتها، كما تجري في العروق كل تلك الخُطى التي سارت على دروب المعرفة، كل تلك الجهود التي بُذلت لتسلق سفوح العلم الوعرة، كل الطاقات، والهمم، التي تأملت، وتفكرت، ودونت وكتبت وحفظت ودرست ودرّست، رغم شظف العيش وضيق الحال ونأي المسافات، ورغم السياسة والجغرافيا والتاريخ والتناقضات التي لا تعترف لا بقعر ولا قمّة؛ ظلت فكرة المكتبة ممتدة ومضيئة ومتقدة، وهنا تكمن الحكاية التي تستحق الإشادة والتكريم والإجلال
بعدما ألقى الرحالة خالد كتابه هذا لتلقفه العقول، وتألفه القلوب، وتتوسده الذاكرة، وتزهر به المكتبات، وتفتخر به المطابع العمانية بما تردفه مادة الكتاب من هبات لا تتوقف، فمن المقدمة التي بدأت برش الكافور على الدمار وتكفين الألم والجوع والعوز ومسح الوضع القاتم الذي كان يسود زنجبار يستبدل بذلك كله (الآن) بما تعيشه البلد اليوم، فقد نضج في تنور المعاناة الحُلم الباسط كفيه والحقل السارح بأريجه والبرد المُتقد بنار الحياة والمطر المردد آيات الروح والأمل، فظل الرحالة خالد يحفر صدرا آخر لزنجبار، يضع سجاد الورد والقرنفل تحت قدمي القاريء كي يرتحل إلى نوريّة الغد الآتي. هدى الحوسني